هل انتهت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، التي صار عمرها أكثر من نصف قرن؟، وبالتالي هل تتخلى «بيونغ يانغ» عن كامل أسلحتها النووية، التي تشكل بالنسبة اليها شعر شمشون، التي تقول الأسطورة اليهودية أن «دليلة» تمكنت من إزالته عن بكرة أبيه، حيث فقد شمشون قدرته الأسطورية. ومقابل ماذا؟ مقابل حفنة من الدولارات الأميركية لا تسمن الشعب الكوري الشمالي ولا تغنيه من جوع؟

Ad

لا أعتقد ذلك. فالملف النووي الكوري لم يوجد في الأساس لكي يغلق بكامله. والقرار بإغلاقه او باستمرار وجوده، وربما تحسينه، ليس بيد الرئيس الكوري الشمالي «كيم يونغ ايل»، بل هو قرار صيني من ألفه إلى يائه. باختصار، فإن كوريا الشمالية كانت ولاتزال ورقة رابحة في يد الصين لترويض أعدائها الغربيين والآسيويين عندما تدعو الحاجة، فلماذا تتخلى عن هذه الورقة والحرب الاقتصادية في ذروتها؟! انطلاقاً من هذا الواقع، فإن الملف النووي الكوري يصبح صالحاً للإغلاق في الوقت الذي تتزاوج فيه مصالح الولايات المتحدة والصين زواجاً كاثوليكياً لا طلاق بعده. وبانتظار حدوث هذا المستحيل فإن الأزمة مستمرة بأشكال مختلفة، ترتفع سخونتها عندما تريد بكين، وتبرد عندما ترى واشنطن أن باستطاعتها دفع تكلفة هذا التبريد. هذا هو الموضوع برمته بكل بساطة.

في الأسبوع الأول من الشهر المقبل يقوم الرئيس الأميركي بوش بزيارة حليفته كوريا الجنوبية لطمأنتها إلى أن السياسة الأميركية الاستراتيجية تجاه حمايتها، لم ولن تتغير مهما كانت الظروف، وأن «بيونغ يانغ» ستبقى منبع الشر، ليس في آسيا فحسب، بل في أنحاء العالم المختلفة، وأن التودد الأميركي لنظامها عن طريق المال والمساهمة في رفع العزلة الدولية عنها هو من قبيل المناورة لكسب الوقت ليس إلا.

لدي مع كوريا الشمالية قصة، بل قصص تبعث على الابتسام، بالإضافة إلى تجربة اعتبرها فريدة من نوعها. القصة بدأت في عام 1969 عندما دعيت إلى زيارة تلك البلاد لمدة أسبوعين، ثم بناء على طلب رئيسها آنذاك «كيم إيل سونغ»، والد الرئيس الحالي، مُدِدَت الدعوة أسبوعاً آخر لترتيب لقاء صحافي مع «الزعيم المحبوب لأربعين مليوناً من الشعب الكوري». وكان هذا لقبه، مع أن تعداد الشعب في الشمال كان لا يزيد على 18 مليوناً، وفي الجنوب المنفصل 22 مليوناً. وهكذا وبجرة قلم وحَّد علم الحساب الكوريتين، بينما فشلت في توحيده الحروب والقنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات التي تملكها بيونغ يانغ.

أذكر أنني كنت مدعواً لعشاء رسمي وطـُلِب مني إلقاء كلمة فبدأتها بتحية كيم إيل سونغ الزعيم المحبوب لأربعين مليوناً من الشعب الكوري وواحد. بعد انتهاء العشاء مال «كيم»، المترجم الكوري الذي يجيد اللغة العربية أكثر من بعض الكتّاب والصحافيين العرب، وسألني بصوت هامس: ماذا تعني يا رفيق بـ«الواحد» بعد الأربعين مليوناً؟ فسارعت إلى القول: الواحد هو أنا. هل هناك مشكلة؟ ابتسم «كيم»، ونادراً ما يبتسم كوريو الشمال من القلب، لأن الابتسامة دليل الراحة والاطمئنان إلى الحاضر والمستقبل قد يعاقب عليهما القانون الجزائي الكوري بالموت من دون محاكمة.

سأبتعد قليلاً عن الكلام في السياسة لأركز على التجارب الإنسانية في ذلك البلد الذي لايزال الغموض يلفه من كل جانب حتى ينسجم الموضوع مع العنوان: كورية الشمالية وأنت تضحك. ولكن قبل ذلك من الواجب إعطاء نبذة تاريخية عن حروب هذا البلد مع الأمم المتحدة مجتمعة، ثم مع الولايات المتحدة منفردة التي لاتزال تحشد قدراً مهماً من عسكرييها وصواريخها على الحدود الفاصلة بين الكوريتين إلى يومنا هذا.

• في الخامس عشر من شهر أغسطس في عام 1945، وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا النازية وما جرى بعد ذلك من اقتسام العالم أرضاً ونفوذاً بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، كان نصيب كوريا الموحدة آنذاك التقسيم إلى كوريتين: الشمال لموسكو، والجنوب لواشنطن.

• لتركيز التقسيم على الطريقة الأميركية المعروفة أجرت قوات الاحتلال الأميركية انتخابات شكلية في الجنوب سلمت واشنطن على أثرها السلطة إلى حكومة ما بعد الانتخابات. حدث ذلك في 15 أغسطس 1948، أي بعد ثلاث سنوات بالضبط من الاحتلال العسكري الأميركي.

• لم يعجب ذلك موسكو التي كانت قد انتهت من إنشاء جيش الشعب الكوري بقيادة كيم إيل سونغ ورفعت شعار طرد الأميركيين من شبه الجزيرة الكورية وإعادة توحيد البلد في ظلّ الماركسية اللينينية التي كانت في ذروة قوتها.

• في 25 يونيو 1950 قام جيش الشعب الكوري بغزو جنوب كوريا. كالعادة سارعت الأمم المتحدة إلى إيقاف هذا العدوان بالوسائل المتاحة. وفي 27 يونيو، أي بعد يومين من الغزو، دعت الأمم المتحدة أعضاءها إلى المشاركة في صدّ هذا العدوان وسارعت واشنطن إلى تلبية الدعوة بسرعة البرق، حيث هاجمت في اليوم التالي بواسطة الطائرات القاذفة القوات الشمالية المتمركزة في منطقة «هان ريفر». رد الشمال بحرب شاملة واستغل عدم وجود قوات أميركية أو غيرها على أرض الجنوب واستطاع أن يحتل «سول» عاصمة الجنوب، طبعاً بدعم ومساعدة موسكو، بينما كانت الصين التي ولدت بالأمس غير مستعدة لوجستياً لمساعدة جارتها ورفيقتها الماركسية. فالصين حصلت على استقلالها في عام 1948، وكان زعيمها ماوتسي تونغ مازال مشغولاً بترتيب شؤون بيته الكبير جداً. لكن العم «ماو» لم يكن سعيداً للتدخل السوفييتي في كورية الشمالية، مما يعني أن موسكو بهذا التدخل أصبحت على أبواب «بكين» عاصمة الثورة الصينية الجديدة. ووضع «ماو» إصبعاً على الجرح وقرر أن يقف موقف المتفرج أولاً بانتظار أن تسنح له الفرصة لاستعادة كوريا الشمالية من أيدي أشقائه الأعداء ماركسيي الاتحاد السوفييتي.

• في 30 يونيو، أصدر الرئيس الأميركي ترومان أوامره بإرسال قوات برية إلى كوريا الجنوبية وأجاز للطيران الأميركي بشن غارات على الشمال، وهكذا بدأت الحرب الكورية، بينما نيران الحرب العالمية الثانية لم تنطفئ بعد.

• في البداية، كان النصر المرحلي يقف إلى جانب قوات الشمال المدعومة بالسلاح وبالذخيرة من موسكو، وبالقدرة البشرية من الصين. لكن ميزان النصر بدأ يميل إلى قوات الأمم المتحدة التي استطاعت في 15 مارس 1951 من استعادة سول من أيدي الشماليين، وفي 13 يونيو أنشأت قوات الأمم المتحدة ما عرف فيما بعد بـ«خط العرض 38» الذي فصل الكوريتين ومازال إلى يومنا هذا. واشتدت الحرب، وخشي الطرفان من أن تخرج عن إطار السيطرة وتتحول إلى حرب عالمية ثالثة. لذلك فُتحت أول نافذة للمفاوضات. كان ذلك في 25 يونيو 1953 انضم إليها الشيوعيون بشكل رسمي في 10 يوليو، وفي 27 منه تمّ توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار. لكن المناوشات الحربية الحدودية استمرت إلى عام 1955 حيث تمّ التوصل الى هدنة.

• عدد الجنود الأميركيين الذين اشتركوا في الحرب الكورية بلغ 260 ألفاً قـُتل منهم نحو 34 الفاً، بينما تمّ أسر 7140 جندياً، عاد منهم 4418 إلى الولايات المتحدة بينما توفي في الأسر 2701 جندي في ما رفض 21 جندياً العودة وفضلوا العيش في ظل نظام كيم إيل سونغ. (هذه الأرقام مأخوذة من إحصاء رسمي أجراه البنتاغون في عام ألفين).

*كاتب لبناني