إنسان... بمعنى الكلمة (1-2)

نشر في 27-11-2008
آخر تحديث 27-11-2008 | 00:00
 حمد نايف العنزي كلما علت أصوات المتعصبين والمتشددين والمتزمتين، وانتشرت في الجو رائحة الكراهية والبغضاء والتحريض على إلغاء الآخر، المختلف عنهم فكريا ودينيا وسياسيا، تذكرت هذا الرجل العظيم في تواضعه وتسامحه وإنسانيته، ورحت أقرأ في سيرته العطرة، متمعناً في مواقفه الدينية والسياسية والاجتماعية العظيمة، ومستمتعاً بقراءة أقواله وحفظ حكمه الرائعة. ولد الزعيم الروحي «المهاتما غاندي» عام 1869، ابنا لعائلة ثرية لها باع طويل في السياسة، حيث تولى جده ووالده على التوالي رئاسة وزراء إمارة بور بندر، وتزوج صغيرا في الثالثة عشرة من عمره كما تقتضي التقاليد الهندية في تلك الأيام، ثم سافر إلى بريطانيا عام 1888 لدراسة القانون، وعاد إلى الهند بعد 3 سنوات ليمارس مهنة المحاماة.

توجه بعد ذلك إلى جنوب إفريقيا، وعاش هناك أكثر من عشرين عاما، قضاها في الدفاع عن حقوق العمال الهنود أمام الشركات البريطانية، وكانت هذه الفترة من أهم مراحل تطوره الفكري والسياسي، حيث أتاحت له الفرصة ليعمق معارفه وثقافاته ويطلع على كثير من الديانات والعقائد والفلسفات المختلفة، وجرب أسلوبا في العمل السياسي أثبت فعالية كبيرة ضد الاستعمار البريطاني، وهو ما سُمي سياسيا بـ«المقاومة السلمية» أو فلسفة «اللاعنف». وهي فلسفة تقوم على مبادئ وأسس دينية وسياسية واقتصادية، الهدف منها إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق مواجهته بأساليب سلمية كالصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني، غير أن غاندي اشترط لنجاح سياسته هذه، أن يتمتع الخصم ببقية من ضمير، وأن يتمتع هو بهامش من الحرية يمكنه من أن يفتح حوارا موضوعيا مع الطرف الآخر. عاد غاندي إلى الهند عام 1915 وهو أكثر نضجا ووعياً، ليصبح بعد سنوات قليلة من العمل الوطني، الزعيم الأكثر شعبية في الهند، مواصلا نضاله ضد الظلم الاجتماعي بكل أشكاله، وضد المستعمر الإنكليزي الذي يحتل بلاده، وانصب اهتمامه بشكل خاص على حل مشكلات العمال والفلاحين و«المنبوذين» الذين أسماهم «أبناء الله»، معتبرا أن المعاملة السيئة والقاسية معهم سُبة في جبين أمة تريد تحقيق الحرية والاستقلال واللحاق بركب الحضارة. في عام 1922 قاد حركة عصيان مدني أدت إلى صدام بين الجماهير الهندية الغاضبة وقوات الأمن والشرطة البريطانية، مما دفعه إلى إيقاف هذه الحركة، ورغم ذلك، حكمت عليه السلطات البريطانية بالسجن ست سنوات، لتعود وتفرج عنه بعد عامين. قاد حملة لمقاطعة الملابس الأجنبية عام 1931 بهدف تحرير الاقتصاد الوطني بادئا بنفسه، فقد خصص أربع ساعات يومياً لينسج قماشا على مغزل يدوي ليكون قدوة للناس، وليستخدم الهنود هذا القماش البسيط المغزول بأيدي أبنائهم، بدلا من شرائه من المغازل البريطانية، التي أودت بصناعة النسيج في الهند، فكانت النتيحة أن شعر الهنود، وللمرة الأولى، بروح الكبرياء والعزة تسري في نفوسهم؛ وهو ما سعى إليه تحديدا. وتحدى في نفس العام القوانين البريطانية التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية، حيث قاد مسيرة شعبية ضخمة توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك، وقد أدى هذا العصيان إلى توصّل الطرفين إلى حل وسط، حيث وقعت «معاهدة دلهي» في عام 1931. في عام 1932 قرر غاندي أن يبدأ بصيام حتى الموت، احتجاجا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد «المنبوذين» الهنود، مما أرغم الزعماء السياسيين والدينيين للتفاوض معه والتوصل إلى «اتفاقية بونا» التي قضت بزيادة عدد النواب «المنبوذين» وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. مما يروى عنه، أنه كان يهم يوما بركوب القطار، فانزلقت فردة حذائه لتستقر على خط السكة الحديدية، ولم يكن بمقدوره أن يستردها، فقد بدأ القطار بالتحرك، فما كان من «غاندي» حينها إلا أن قام وخلع فردة حذائه الأخرى بكل هدوء، ليلقيها على خط السكة الحديدية لتستقر بالقرب من فردة الحذاء الأولى، عندها أصيب رفاقه بالدهشة، فسأله أحد الركاب لماذا فعل هذا؟! فابتسم قائلا: حتى يكون للفقير الذي سيجد الحذاء على مسار سكة القطار كاملا يمكنه استخدامه!

كان يعيش على ثلاثة دنانير فقط في السنة، مقدما مثلاً أعلى لشعبه، وللناس كافة، في التواضع والاكتفاء والتجرد والتضحية وإنكار الذات.

وللحديث بقية...

back to top