أسرار التعويل الأميركي على المتصوفة 1-2

نشر في 10-06-2008
آخر تحديث 10-06-2008 | 00:00
 د. عمار علي حسن

إن الولايات المتحدة تريد أن تضرب بالصوفية ثلاثة عصافير بحجر واحد: الأول يرتبط بتصور الأميركان أن الصوفية قادرة على استيعاب العلمانية، والثاني هو التوسل بالطرق الصوفية المنتشرة في شتى أرجاء العالم الإسلامي لتشجيع التحول من المذهب السني إلى الشيعي، أما الثالث فهو استغلال التقرب إلى التصوف في تحسين صورة الولايات المتحدة لدى العرب والمسلمين.

لا يحتاج تعويل الولايات المتحدة الأميركية على «التصوف» ليصبح هو الطريق الأوحد للإسلام إلى دليل، فواشنطن تصرفت على مدار السنوات الخمس المنصرمة بما يعزز هذا المسلك، ويقوي شوكته، في إطار استراتيجيتها الرامية إلى تحجيم الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية الراديكالية، وفي معيتها التفكير والتدبير السلفي، الذي ينتهي دوما إلى خلاف مع واشنطن قد يتصاعد إلى حد التصادم، وينتهي كذلك إلى مواجهة لمصالح أميركا وسياساتها في العالمين العربي والإسلامي، التي تُبنى في جزء منها على تحجيم أو تدجين كل من يجهر بالعداء لها، أو من يسعى إلى النيل منها.

ورغم أن للمتصوفة تحفظا شديدا على الكثير من ممارسات أميركا في بلادنا، فإنهم لم يقفوا حتى الآن في صدارة المشهد المعادي للولايات المتحدة، بل إن حرص الكثيرين منهم على السير في ركاب الأنظمة الحاكمة، جعلهم في آخر صفوف حركة «الإحياء الإسلامي» التي تدخل في تحد حضاري للمشروع الغربي برمته على مدار النصف الأخير من القرن العشرين. ولم تكن هذه التصرفات بعيدة عن أعين الأميركيين، ولذا أخذوا ينظرون إلى الصوفية من زاوية مختلفة، وراحوا يبنون على أكتافها العريضة آمالهم في تقليم أظافر الجماعات المتشددة التي تناوئهم، وتغذي أفكار وممارسات تنظيم «القاعدة» وكل من يدور في فلكه، أو يعمل على شاكلته.

وبالتالي فإن الولايات المتحدة تريد أن تضرب بالصوفية ثلاثة عصافير بحجر واحد، الأول يرتبط بتصور الأميركان أن الصوفية قادرة على استيعاب العلمانية، قياسا إلى تجربة «النقشبندية» في تركيا، التي أنتجت حزبي الرفاه والعدالة والتنمية. ومن هنا فإن الصوفية هي التجلي الإسلامي القادر، من وجهة نظر واشنطن، على حمل منظومة القيم الديمقراطية التي تبشر بها أميركا، والتي باتت جزءا لا يتجزأ من أدوات السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدار عشرين عاما تقريبا، استعملت فيها الإدارات التي تعاقبت على حكم البيت الأبيض الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان لخدمة مصالح الإمبراطورية المنفردة بالهيمنة على العالم المعاصر، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن المنصرم.

والثاني هو التوسل بالطرق الصوفية المنتشرة في شتى أرجاء العالم الإسلامي لتشجيع التحول من المذهب السني إلى الشيعي، وهي مسألة تحقق لأميركا هدفين جليين أولهما هو خدمة سياسة «الفوضى الخلاقة» التي تقوم على إحياء النعرات المذهبية والطائفية والعرقية في العالم العربي، بما يؤدي إلى تفتيت الدول القائمة حاليا إلى وحدات أصغر، تنشب بينها صراعات لا تنتهي، تكون بابا خلفيا لدخول إسرائيل، التي تبدو في ظل هذا التفتت والتشرذم الدولة الوحيدة المتماسكة نسبيا، والقادرة على قيادة المنطقة. وثانيهما هو توحيد المرجعية في العالم الإسلامي، فالولايات المتحدة أدركت من خلال تجربتها المريرة في العراق أن التعامل مع مرجع إسلامي واحد، يأتمر سائر المسلمين بأمره ويمتثلون لندائه ويلبون دعوته، وهي مسألة تتوافر عند الشيعة، هو أيسر من التعامل مع مرجعيات متعددة كما هي الحال عند أهل السنة، الذين يتمسكون برفض الإسلام لوجود واسطة بين الإنسان وربه أو مؤسسة دينية كهنوتية كما هو مطبق في المسيحية.

أما الثالث فهو استغلال التقرب إلى التصوف في تحسين صورة الولايات المتحدة لدى العرب والمسلمين، والتي قبّحها انحياز واشنطن السافر لإسرائيل، واحتلالها المباشر للعراق وأفغانستان، وغير المباشر أو بالوكالة للصومال، وتهديدها لبعض الدول العربية والإسلامية، ومساندتها للعديد من الأنظمة الحاكمة المستبدة في المنطقة. وقد رأينا كيف كان السفير الأميركي السابق في القاهرة فرنسيس ريتشاردوني حريصا على حضور الموالد، ولاسيما مولد السيد البدوي بمدنية طنطا (دلتا مصر) والذي يحضره ملايين المصريين والعرب.

وهذه الأهداف الأميركية واضحة للعيان، وتكاد تكون غاية للغرب برمته، فها هو برنارد لويس الذي يعد المفكر الأول لليمين المسيحي الأميركي المتطرف يكشف عن سعي الغرب منذ زمن لتمكين التصوف والمتصوفة، بما يؤهلهم لكبح «الإسلام السياسي»، ويوافقه الرأي دانيال بايبس، وهو يحمل الأفكار نفسها، فيؤكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها يسعون إلى مصالحة التصوف ودعمه كي يملأ الساحة الدينية الإسلامية. ويتفق المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي مع لويس وبايبس من حيث الشكل فيرى أن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي تتوسل بالصوفية لمحاربة الظاهرة الإسلامية المسيسة، بما أغرى الغرب في انتهاج الطريقة نفسها. ويصل الأمر عند المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم إلى حد القول إن «مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي».

* كاتب وباحث مصري

back to top