الدخول إلى الغابة
لو أردت العبور إلى حالة من التطهر والصفاء والهدوء والشفافية، والاستنارة الروحية، فما عليك إلا التوجه إلى الغابات، وبما أننا في موسم السفر الصيفي إلى أطراف العالم الباردة، فابحث عن الغابات فيها. لن يكون هناك أي معنى للسفر من دون المرور عبر شريانها، وسبر أغوارها، وامتصاص شيء من طاقتها وإشباع الروح من سكينتها.
ابحث عن الغابات البريئة، التي مازالت تحتفظ بأصالتها، وليس بتلك التي حولها الإنسان إلى غابات مدجنة مستأنسة، مسكونة بإنجازاته من بارات، ومطاعم الوجبات السريعة، ومقاهي الصخب، وموسيقى الإزعاج والضجيج. هناك غابات رائعة تمتد عبر كرتنا الأرضية، أتمنى من الله ألا تأكلها النيران المصطنعة بيد الإنسان، لتتحول إلى منتجعات سياحية تدر الملايين من العملات الصعبة. أتذكر في أواخر السبعينيات كانت مدينة الجزيرس في إسبانيا غابات جميلة، مطلة على المحيط الأطلنطي، وبفعل الحرائق تحولت إلى مارينات ومولات وفنادق سياحية. *** سأتحدث عن بعض الغابات ألتي أعرفها ومازالت تحمل طبيعتها البرية الخالية من الرتوش المصنعة بيد الإنسان: هناك غابات «مور» أو ما تسمى بالغابة الحمراء في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وهي ذات أشجار عملاقة، جذوعها حمراء، يقال إنها الأطول في العالم، وإن لها بنات عم توجد فقط في الصين. هذه الغابة روعتها منبعثة من هيبة عملقتها المتسلقة أهداب الشمس، يدب الإنسان تحتها مثل نملة لا تترك أثراً. وهناك أيضا غابات «سايبروس» في ولاية ميامي الأميركية، وهي أشجار عملاقة نصفها غارق في الماء والنصف الآخر محمول فوق سطح الماء. هذه الغابات المائية تتجول بينها فقط من خلال ركوب المركب الذي ينساب بهدوء بين خصور الأشجار، وانعكاس ظلها في مرايا الماء، وسيقانها الممتدة من تحته. في فرنسا توجد غابة «بولونيا» الشهيرة ودخولها في النهار هو الأفضل والأروع، ولكن إن أردت اكتشاف ما يدور فيها ليلا، ولو من باب المعرفة والفضول فيستحسن عبورها في السيارة من خلال الشوارع التي تخترقها. أما غابة «فانسان» التي تقع في أطراف مدينة باريس فهي غابة تصلح لجميع أفراد العائلة لبساطتها وانبساطها وجمالها. ولعل أجمل الغابات التي رأيتها وعشقتها هي الغابات التي تزنر مدينة كارلو فيفاري وتطوق واديها بالغابات الكثيفة المحتشدة، فهي تمتاز بعفويتها وبريتها وبراءتها التي لم تمتد إليها يد الإنسان بالتشويه والبهرجة. هذه الغابات هي التي تمنح هواءها غير العادي، هواء مغسولاً نقياً طازجاً، خارجاً لتوه من رئتها الخضراء المنعشة. وهذه الغابات زارها آلاف من مشاهير العالم منذ اكتشاف المدينة وإلى يومنا هذا... أباطرة وقياصرة وملوك وأمراء وكتاب وموسيقيون وشعراء، يأتي على رأسهم الشاعر الألماني الكبير «غوته» عاشق مدينة كارلو فيفاري، الذي كتب عن غاباتها التي هي أجمل غابات أوروبا، وعن هوائها العجيب. ومن زوارها أيضا الشاعر الألماني «شييلر» و«تيندوركومر»، والكاتب الروسي «غوغول» و«تريجينوف» و«فرويد» و«فلادمير بارال» و«كارل ماركس» الذي كتب في يومياته: هذه المدينة فعلت بي فعل السحر. وحين يقول المدينة فهو يقصد غاباتها، لأن المدينة كلها ليست إلا واد محاط بالغابات الكثيفة، التي تغذيها بهذا الأكسجين الرائع المتدفق ببذخ، في هواء لا مثيل له. وحين تذهب إلى الغابة لا تدخلها إلا بصحبة ذاتك بغياب عن الآخر، اقفل الهاتف الجوال وانزرق في صمتها الآسر. سر في هوائها مثل النسيم العابر لا تجرح أيا من مخلوقاتها، ادخلها بقلب مفتوح وامتص سكينتها وتمتع برحيق الروائح الآتية من الجنة، وذُب في نعيم الخلوة بعيدا عن كل شيء، منسلخا من كل مطارق التوتر والقلق، تسامَ مع رفرفة الأوراق فوقك وزقزقة الطيور حولك، وبرودة الظلال المنعشة، ودع السكينة تغمرك. صدقني ستخرج منها مولودا من جديد، مغسولا تماما من كل أدرانك وتوتراتك وصخب يومك، مكتسيا بحكمة الأشجار، وخضرة قلبها وارتفاعها المتسامي عن كل ما يدب على الأرض. الدخول إلى الغابة هو الدخول إلى ذاتك.