إن كنا نجحنا نحن العرب في شيء يتعلق بعلاقتنا بالنظام العالمي فهو إجباره على التخلي عن المشروعات الكبيرة واللجوء إلى أفعال وسياسات عشوائية ذات معنى أحيانا ومن دون أي معنى أحياناً أخرى.

Ad

فلم يكن لدينا تصور أو مشروع كبير عن مستقبلنا المشترك في هذه المنطقة ولا عن رؤية للمستقبل الوطني سياسياً واقتصادياً، وعندما بدأ الغرب طرح رؤية ما منسجمة إلى حد ما بغض النظر عن مصداقيتها أو مواءمتها لأحوال المنطقة رفضناها وناورنا من حولها ونجحنا في إسقاطها، فلجأ الغرب إلى الأفعال وردود الأفعال العشوائية وأحياناً غير المحسوبة أو التي يظنها أصحاب نظرية المؤامرة محسوبة، وإن على حسابنا.

وموطن الخلل أن حكامنا ومنظّريهم الايديولوجيين والسياسيين لا يعترفون بالخلل الجسيم الكامن في إرثهم السياسي ولا في واقع بلادهم ومنطقتهم. الأخطاء الكبيرة ومظاهر الانحراف الكثيرة ليست سوى «سوء بخت» أو تدبير من الخارج أو من أعداء داخليين أو من الشيطان، ولكن ليست من بنات تصرفاتهم وسياساتهم هم، وليست نتاجاً منهجياً لنظمهم السياسية القمعية وأفعالهم الاستبدادية وفسادهم وبؤسهم الثقافي وإهمالهم للمعاني السامية والرموز الكبيرة والإضاءات الملهمة، فضلاً عن سوء أدائهم في كل مجال تقريباً باستثناء ما يأتينا من باطن الأرض!

مشروع الشرق الأوسط العظيم

ولأن أحداث 11 سبتمبر أكدت للغرب وجود مشكلة واستحالة القبول بالقول أو الادعاء بأن ليست هناك مشكلة، فقد قدم الغرب استجابته التي تعكس خبراته وثقافته وإيديولوجياته المهيمنة. وأشمل هذه الاستجابات كانت أطروحة الشرق الأوسط العظيم. فعلى مستوى الشعارات، ينصح المشروع بالنظر إلى مستقبل المنطقة ككل، ويرى ضرورة أن تتقدم من خلال شكل أو آخر من أشكال التعاون في ما بين دول المنطقة، ويقدم صيغة رأسمالية لهذا التعاون يقوم على تدفق التجارة من دون عوائق، وسد فجوة المعرفة، والاهتمام بدعم الاستثمارات الصغيرة، وضمان حقوق النساء مع الالتزام بمبدأ التسامح الديني، والانطلاق في التعليم الذي يقدم الأمل ويستجيب لحاجات الناس وتوقهم الى الحرية والمشاركة السياسية والاقتصادية.

وبالطبع لا يمكننا تصديق هذه الشعارات كلها. ففي الواقع كان المشروع يستهدف إدماج إسرائيل في المنطقة قبل أن تنسحب من الأراضي العربية المحتلة، وتعترف بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، كما أن المشروع كان يستهدف تقديم تغطية ودعم إقليميين للاحتلال الأميركي للعراق وللسياسات الهادفة الى تجريد المنطقة من حقها في الدفاع الفعال عن نفسها في وجه العدوان أو التهديد الماثل في احتكار اسرائيل لأسلحة الدمار الشامل.

هذا كله صحيح، فهذا المشروع مصاب بميكروب التناقض والتعارض بين الشعارات والوقائع المادية والسياسات الفعلية، ومع ذلك كان لهذا المشروع ميزة أساسية وهي فضح افتقار القادة العرب الى أي مشروع بديل ومنسجم ولأي مبادرة شاملة.

وعندما طرح الغرب مبادرة الشرق الأوسط العظيم كان بوسعنا أن نتحداه بطرح مشروعنا الخاص على المستويين الإقليمي أو القومي (العربي والوطني). ولم نفعل... ولكن الأهم أننا رفضنا مبادرتهم أيضا من دون أن نقدم شيئاً مغايراً وبديلاً، ليتأكد وجود فراغ فكري وفراغ في مستوى الرؤى والبرامج الشاملة. وهذا الفراغ لابد أن يملأه أحد على نحو ما. ولذلك فكل ما حدث هو أن الغرب يتابع تطبيق توجهاته نفسها وتحقيق مصالحه نفسها، ولكن من دون إسنادها بفكرة شاملة أو رؤية منسجمة. ومن ثم صارت سياساته عشوائية وممزقة وفاقدة للتوجه وللإحساس بأي طريق وباتت هذه السياسات عشوائية مثلها مثل الواقع الذي فرضه علينا حكامنا وتراثنا السياسي القديم والسابق على مشروع الحداثة أو تراثنا القادم من العصور الوسطى.

بين الاتحاد والتفكيك

من قبيل السياسات العشوائية أن يحضر عدد كبير من القادة العرب مؤتمر «الاتحاد من أجل المتوسط في باريس» في الوقت نفسه تقريبا الذي يتخوف فيه من أن يكون الهدف هو تفكيك المنطقة ودولها، ويؤكد الانطباع الأخير أن يصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية اتهاماً للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور في الوقت نفسه الذي كان القادة العرب يجتمعون فيه من أجل «الاتحاد». ويعلم هؤلاء القادة أن الخطوة التالية هي إصدار أمر اعتقال للرئيس السوداني بذريعة تحويله الى المحاكمة بهذه التهمة، وهو ما يعرض السودان لمحنة شديدة قد تقود إلى تفككه.

ويعني ذلك في الواقع اشعال الصراع بين أوروبا بالذات والسودان ومن ثم الجامعة العربية، فالمؤكد أن الأغلبية الساحقة من الدول العربية ترفض كلية هذا القرار وترى فيه خطوة معادية للاستقرار ولنظم الحكم العربية ونسفاً لاحتمالات السلام في السودان... إلخ.

وبغض النظر عن سلامة أو عدم سلامة القرار وردود الفعل العربية المتوقعة، فالمسألة التي نناقشها هنا هي هذه العشوائية في السياسات الأوروبية. فإن كانت أوروبا تريد علاقات أوثق مع أقطار المنطقة فقد كان عليها أن تتفهم حساسياتها وحساباتها أو حسابات حكامها. فهذه الحسابات تقودهم إلى الاعتقاد بأن قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية حصل على مساندة أوروبية، وهو ما يضاعف الشكوك القائمة بالفعل حول أهداف أوروبا وطبيعة مواقفها وعلاقاتها بإسرائيل وبالولايات المتحدة... إلخ.

ويضاعف الخلط والاستغراب أن فرنسا كانت قد توقفت عن تطبيق سياسة عزل وعقاب سورية بذريعة اتهامها بتدبير عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وسيقوم الرئيس الفرنسي ساركوزي بزيارة دمشق في غضون الأشهر المقبلة فيما ينظر إليها كانعطافة حادة عن السياسات الفرنسية التي طبقها الرئيس السابق جاك شيراك والتي توجها القرار 1959 وغيره من القرارات المضادة لسورية. ومن المفهوم والمتفق عليه بصورة عامة أن الرئيس ساركوزي والأوروبيين بصورة عامة يريدون تطبيق سياسات تقلل من الاهتمام بقضية حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من الشعارات البراقة التي أطلقتها إدارة بوش، ولا شك أن الحماسة لحضور قادة عرب كثيرين مؤتمر باريس يومي 13 و14 يوليو تعود جزئياً إلى اعتقادهم بأن أوروبا ستطبق سياسات واقعية وبعيدة عن الاهتمام الفعلي بشعارات حقوق الإنسان. وفهمت النظم العربية أن قرار فرنسا بالتوقف عن استعداء سورية وفرض الحصار عليها يتسق مع هذا التوجه العام. ومن هنا تنشأ الدهشة ويزيد الاستغراب في ما يتعلق بقرار توجيه الاتهام الى الرئيس البشير وتحويله الى المحاكمة، وهو ما يترتب عليه محاولة اعتقاله بالقوة أو استمرار هذا القرار معلقاً من دون حسم أو حل في رقبة العلاقات العربية - الأوروبية.

العشوائيات والمؤامرات

يمكن بالطبع أن نقبل بعض النظريات التي تفسر ما يعتري هذه السياسات الأوروبية من تناقض وتعارض في التوجهات والفلسفات، ويقول أكثر الناس تشككاً إن هدف الغرب هو تفكيك السودان إلى ثلاث مناطق أو دول، بينما المطلوب في المقابل تفكيك التحالف السوري-الإيراني. تفكيك السودان مطلوب- في رأي بعضهم- لضمان الهيمنة على محور النفط الجديد في إفريقيا الممتد من السودان إلى نيجيريا مرورا بالكونغو، وهي جميعاً دول شهدت حروباً أهلية، أما التفكيك الثاني، فهو مطلوب لضمان عزل إيران وضربها منفردة وقيام سورية بمنع «حزب الله» من الانتقام حال قيام إسرائيل أو أميركا بضرب إيران عسكرياً. كما أن هذه السياسة تستهدف تشجيع سورية على المضي في التفاوض مع اسرائيل ونقله الى مستوى المفاوضات المباشرة. ولكن إن قبلنا بهذا التفسير، فلن يكون ذلك مناقضاً، بل تأكيدا لفكرة العشوائية في السياسات الأوروبية. ففي الحالات جميعها ستكون أوروبا قد أرسلت رسالتين متناقضتين الى القادة العرب: اطمئنوا لن نهتم كثيراً بالديمقراطية وحقوق الإنسان... ولا تطمئنوا لأننا قد نعتقلكم ونحيلكم الى المحكمة الجنائية الدولية. وعليكم في الأحوال جميعها أن تقبلوا «الاتحاد معنا» والتفكيك في ما بينكم. وبغض النظر عن هذا الاحتمال أو ذاك، فإن وقت المشروعات الإصلاحية الشاملة والكبيرة والمنسجمة- ومرة أخرى بغض النظر عن مصداقيتها- يبدو وكأنه فات... ومات وصار من قبيل الحكايات والمؤامرات.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية