Ad

مهما كان هناك من أوهام بأن الانفراد بالسلطة قد يؤدي إلى إصلاح أوضاع البلاد، فإن تلك الأوهام سرعان ما «تتفلش» على أرض الواقع، وعادة ما تخلِّف وراءها كوارث ومآسي من الصعب إصلاحها، فلا تكون إلا كذلك الرجل الذي أراد إصلاح عملة من فئة المئة فلس معوجة فدفع مقابل إصلاحها ربع دينار.

تأسست الكويت منذ أكثر من ثلاثة قرون على مبادئ أطلقت عليها مفهوم «الحكم المشترك»، والذي تحول تدريجياً إلى مفاهيم أكثر مؤسسية أصبحنا نطلق عليها الدستور والديمقراطية. وقد دلّت الشواهد التاريخية على أنه كلما حاول طرفا العلاقة الاستئثار بالسلطة والتفرد بالقرار، فإن مآل ذلك ونتيجته تدهور الأوضاع وتردي الأحوال.

وتدلّ الشواهد أيضاً على أنه كلما سُدّت الطرق، وأُغلقت الأبواب، يضطر الجميع إلى العودة إلى صيغة ما في اتجاه اتساع المشاركة السياسية، وأنه مهما كان هناك من أوهام بأن الانفراد بالسلطة قد يؤدي إلى إصلاح أوضاع البلاد، فإن تلك الأوهام سرعان ما «تتفلّش» على أرض الواقع، وعادة ما تخلِّف وراءها كوارث ومآسي من الصعب إصلاحها، فلا تكون إلا كذلك الرجل الذي أراد إصلاح عملة من فئة المئة فلس معوجة فدفع مقابل إصلاحها ربع دينار.

وهكذا أصبحت حال الكر والفر هي النمط السائد في العملية السياسية الكويتية، وهي حال تضيف تشوهات لا يمكن إصلاحها بعمليات تجميلية.

حدث ذلك بعد تداعيات تولي الشيخ مبارك الصباح الحكم وابتعاده بشكل ملحوظ عن مبادئ «الحكم المشترك» التي تأسست بموجبها الكويت، فما أن توفي الشيخ سالم المبارك وقُبيل تولي الشيخ أحمد الجابر الحكم، حتى تحركت شرائح اجتماعية تطالب الأسرة بالعودة إلى مبادئ «الحكم المشترك» ووافقت الأسرة الحاكمة على ذلك، وخرج لنا بموجب هذا الأمر مجلس الشورى عام 1921 إلى حيّز الوجود. ومع أن ذلك المجلس قد مات ميتة طبيعية، فإنه كان علامة بارزة في وضع أسس المشاركة في الحكم.

كما حدث ذلك مرة أخرى عندما شعرت النخبة السياسية بتراجع الأوضاع، والتفرد بالقرار، والابتعاد عن قيم «الحكم المشترك»، فتقدمت بمطالب مكتوبة إلى الشيخ أحمد الجابر بالعودة إلى إشراك الشعب بالقرار عام 1938، فلم يكن من الشيخ أحمد إلا أن وافق على تلك المطالب، وتم انتخاب المجلس التشريعي في تلك السنة، وتلاه المجلس التشريعي الثاني، ومع أن أحداث «سنة المجلس» كما هي معروفة في التاريخ الكويتي، قد صاحبها أحداث عنف غير معتادة في السياق السياسي الكويتي، فإنها ظلت نموذجاً لانتقال عملية المشاركة السياسية إلى درجة مؤسسية أعلى.

كما حدث ذلك بصورة مختلفة ومتنوعة بعد تولي الشيخ عبدالله السالم الحكم عام 1950، من خلال انتخاب مجالس متنوعة ومتخصصة كالأوقاف والبلدية والمعارف، ومع أن حقبة الخمسينيات قد شهدت الكثير من الإرهاصات والمد والجزر، فإنها في المحصلة شكلت الخميرة وقاعدة الانطلاق لصدور الدستور الكويتي عام 1962 بعد الاستقلال مباشرة، بل إنه كان لافتاً للنظر أن رئيس المجلس التأسيسي الذي سلم نسخة الدستور النهائية للشيخ عبدالله السالم، كان هو ذاته عبداللطيف ثنيان الغانم الذي كان من ضمن أعضاء المجلس التشريعي عام 1938، وتم سجنه آنذاك لمدة أربع سنوات ونصف السنة، فكان ذلك مؤشراً أكيداً على مدى الترابط في تطور العملية السياسية.

إلا أن المأزق الذي دخلنا فيه منذ الاستقلال والمحاولات المستمرة والدؤوبة لفك الارتباط مع الدستور والديمقراطية، جعلانا في حال ضياع مركبة من الصعب الفكاك منها إلا بمبادرات غير تقليدية، تتسم بأنانية أقل، وشفافية أكبر، ولكن كيف دخلنا هذا النفق الذي لا يبدو بصيص نور في نهايته؟... للحديث بقية.