على نحو أكثر راهنية وإلحاحاً يعاد طرح مسألة أزمة النظام الإقليمي العربي ومستقبله، لاسيما بعد العدوان الإسرائيلي على غزة (أواخر 2008 وأوائل 2009) وقبله العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، خصوصاً في ظل الاصطفافات في المواقف والاستقطابات السياسية بين مؤتمر قمة الدوحة ومؤتمر قمة الكويت، وهو الأمر الذي كان مثار بحث طيلة العقود الثلاثة الماضية على نحو واسع، ابتداءً من الموقف من الحرب العراقية-الإيرانية 1980- 1988، وفيما بعد غزو القوات العراقية للكويت عام 1990، وما تبعه من حصار دولي وحروب مستمرة واحتلال، فضلاً عن الأزمة السورية-اللبنانية، ولاحقاً مقتل الرئيس الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005، والموقف من المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى أزمة دارفور وما ترتّب عليها من مساءلات دولية في ما يتعلق بنظام العدالة الجنائي، وبين هذا وذاك كانت مسألة الإرهاب الدولي، وما نجم عن أحداث 11 سبتمبر من تداعيات، حاضرة في إطار المشهد العربي الرسمي بكل ثقلها وتفرعاتها.
هذه الإشكاليات والتعقيدات تواجه العمل العربي المشترك بجوانبه المختلفة، لاسيما النظام الإقليمي العربي وجامعة الدول العربية، خصوصاً أن العالم بعد انتهاء الحرب الباردة شهد تطورات سريعة نظرياً وعملياً وفي الفقه والممارسة، الأمر الذي يستوجب إجراء مراجعة لتدقيق فكرة العروبة «السائدة» ومسار النظام الإقليمي العربي ومآل جامعة الدول العربية في ضوء هذه التطورات، وسواء فشلت الجامعة في مسعاها أو تعثرت، فإنه سيكون مناسبة مهمة لوقفة مراجعة جديدة للنظام الإقليمي العربي بعد نحو 64 عاماً على تأسيسها!!وظلّت المحاولات الإصلاحية للنظام العربي الإقليمي مجرد إرهاصات لا ترتقي إلى الفعل، ناهيكم عن التطور الذي حصل في ميدان العمل المشترك على النطاق العالمي، وذلك بحكم التجاذب في المواقف العربية، بل التباعد حد الاحتراب أحياناً، لكنها في الوقت نفسه تبقى تعبّر عن حاجة تمس صميم العمل العربي المشترك بكل مشكلاته وعقده التاريخية وما له علاقة بأبعاده المستقبلية، فشلاً أو نجاحاً، حتى إن كان جزئياً ومحدوداً، خصوصاً أن فرص النجاح ضئيلة في ظل الاحتقان والتوتر والتباعد في الرؤى والمصالح، الأمر الذي يضع الجامعة ومستقبلها على بساط البحث.تأسست جامعة الدول العربية قبل ستة عقود ونيف من الزمان كمنظمة إقليمية دولية (وستحل ذكراها الرابعة والستين في 22 مارس 1945) وحدث ذلك قبل تأسسيس الأمم المتحدة ببضعة أسابيع في سان فرانسيسكو من العام نفسه. والدول العربية المؤسسة هي 7 دول (الأردن، العراق، سورية، المملكة العربية السعودية، مصر، لبنان، اليمن).جاء ميثاق «الجامعة» الذي يتألف من 20 مادة، بمبادئ عامة لم ترتقِ إلى ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة من تقنين لتطوّر الفقه الدولي، الذي أخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات التي حدثت قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، منذ عهد عصبة الأمم عام 1919 حتى قيام الأمم المتحدة عام 1945. فقد حدد مثياق الأمم المتحدة القواعد الأساسية للقانون الدولي المعاصر، التي وضعت نصب عينيها حماية السلم والأمن الدوليين كهدف سام، وكذلك إنماء علاقات التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الدول والشعوب، فضلاً عن احترام السيادة والمساواة في الحقوق وحق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وغيرها من المبادئ التي أصبحت ناظماً للعلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة ولنحو 50 عاماً تقريباً.وإذا كان إنشاء «الجامعة» حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الإقليمي إلاّ أن تلك الخطوة لم تستجب إلى الطموح القومي العربي الذي كان سائداً خصوصاً خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت التوّجهات العروبية والوحدوية، هي مركز الثقل والاهتمام، في حين نحا ميثاق الجامعة منحىً آخر، واعتبر تأسيسها نوعاً من الائتلاف أو التنسيق بين دول عربية «مستقلة» كانت مؤهلة لقيام شكل أرقى من أشكال الاتحاد والعمل المشترك، لكن تشكيل «الجامعة» من جهة أخرى لم يكن حدثاً عابراً، فلأول مرة يُنشئ العرب إطاراً مؤسسياً وآليات عمل تعاقدية واضحة، ولعل مثل تلك الخطوة كانت في حينها متقدمة أو واعدة ضمن مواصفات تلك الأيام.من جهة أخرى اتّسم ميثاق الجامعة بالبساطة الشديدة وبصياغات عامة، لم تستطع أن تغلّب ما هو عربي مشترك، على ما هو قطري ومحلي، فقد ظلّ هذا الأمر منذ التأسيس حتى اليوم موضوع نقاش بدا وكأنه عقيماً في ظل عالم يتغير ويتجدد، لاسيما إيجاد حلول ومعالجات للنزاعات والاحترابات العربية-العربية، وتجلّى هذا الأمر على نحو شديد في العقدة العراقية المزمنة والمشكلة السورية–اللبنانية العويصة، والافتراق الحاد بين «حماس» و«فتح» في إطار السلطة الفلسطينية. وبقراءة ارتجاعية للماضي فقد حرص الآباء المؤسسون للجامعة على تأكيد ما يأتي:1- إبراز مفهوم السيادة على حساب العمل العربي المشترك.2- تقديم فكرة «الدولة» على حساب فكرة «الأمة».3- إعلاء مبدأ التنسيق بين وحدات كيانية «مستقلة» وليس اندماجية أو موحدة.4- رفض أي إشارة إلى موضوع احتمال تدخل «الجامعة» بالشؤون الداخلية للدول الأعضاء. وهو الأمر الذي ظل مصدر التباس وإشكال وغضب أحياناً من جانب الهيئات والمنظمات الشعبية والمدنية والجمهور بشكل عام، إزاء موقف ودور الجامعة «الرسمي» بخصوص التطورات الداخلية بما فيها انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأعضاء.وكان مجلس «الجامعة» يتألف من لجان فرعية لمعالجة القضايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية وشؤون المواصلات والثقافة والجنسية وجوازات السفر والتأشيرات (الفيزا) وتسليم المجرمين والصحة وغيرها، إضافة إلى جهاز الأمانة العامة. ويمكن الآن وبعد أكثر من ستة عقود من الزمان التوقف لقراءة ظروف تأسيس النظام العربي الإقليمي من خلال إنشاء جامعة الدول العربية، ويمكن القول: 1- إن خبرة العمل المشترك كانت معدومة تقريباً على المستوى العربي. 2- إن الخبرة الدولية في هذا الميدان كانت ضعيفة أيضاً، خصوصاً الإطارات المؤسسية، ولعل ثمت تجارب مثل عصبة الأمم وبعض المنظمات والاتحادات الدولية كانت ذات طبيعة أو اختصاص محدود وليس شاملا، ولم تنعكس هذه الخبرة على النظام الإقليمي العربي.3- إن الدول الوطنية العربية «السبع» المؤسسة كانت في طور النشوء، وكان معظمها مقيّداً بمعاهدات واتفاقيات تقلل من سيادتها وتحدّ من استقلالها، الأمر الذي أخرج جامعة الدول العربية بالصيغة التي خرجت فيها، بحيث حملت حيثيات التأسيس إشكاليات تعمقت وتعتقت مع مرور الأيام، وظهرت على نحو صارخ خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية.* باحث ومفكر عربي
مقالات
حيثيات تأسيس جامعة الدول العربية
20-03-2009