لحظة الإعلان عن فوز باراك أوباما برئاسة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، كان القس جيسي جاكسون واقفا بين جموع المحتفلين في شيكاغو، بالغ التأثر والدمع يترقرق من عينيه...
كانت دموع جيسي جاكسون من قبيل دموع الآباء، يثأرون، عبر أبنائهم، من العالم ومن التاريخ، من قسوتهما وظلمهما ومن قدرتهما اللامتناهية على بذل الأذى في حق الأضعف وعلى تصريفه أصنافا وبإسراف، كابد منه زنوج الولايات المتحدة الكثير الذي لا يحصره وصف ولا يستنفده إحصاء.كانت دموع القس جيسي جاكسون التعبير الأجلى عن دلالة ما تحقق بفوز أوباما والرمز الأبلغ إفصاحا عن مغزاه وعمقه. فرحُ أوباما، وهو يعيش لحظة انتصاره، كان صريحا لا تشوبه شائبة، خالصا، نقيّا، «بريئا» إن جازت العبارة، أما فرح جيسي جاسكون، كما عبرت عنه دموعه المنهمرة، فكان يخالطه أسى عميق، إذ هو استحضر، وما كان له إلا أن يفعل، تاريخ معاناة السود.فالأول هو الابن الناجز للثاني، وإن بالمعنى المجازي للكلمة، وشرط وجوده. ما كان لأوباما أن يوجد لولا أن وُجد جيسي جاكسون وأمثاله ممن ناضلوا من أجل إحقاق حقوق السود. ما كان يمكن لأوباما أن يستوي رئيسا لأميركا ما بعد عرقية، كاشفا، بانتخابه، عن وجودها، إلا لأن جيسي جاكسون، وأبناء جيله والأجيال التي سبقته، كانوا بُناة ذلك الواقع ما بعد العرقي ومجترحيه، انتزعوه انتزاعا من بين فكّي تاريخ مديد مفترس، من الاضطهاد والامتهان.لذلك، كانت دموع جيسي جاكسون التعبير الأصدق عن طبيعة التحوّل الذي تحقق بفوز أوباما، والأداة الأفعل في قياس مداه. إذ تختصر السيرة الذاتية للقس جاكسون تاريخ معاناة سود الولايات المتحدة، على نحو يسير وجيز من الناحية الزمنية، ولكنه تام مكتمل من الناحية الرمزية. فقد كابد الرجل، وهو المولود في ولاية كارولينا الجنوبية (وقد كانت من معاقل التفرقة العنصرية)، سليل الرّق وثمرته المرة، طفلا ثم يافعا، التمييز العنصري، مشروعاً يرعاه القانون، شاملا مطبقا على كل لحظات الحياة اليومية، ثم إنه انخرط، ما إن بلغ الوعي، في حركة الحريات المدنية في ستينيات القرن الماضي، رفيقا للقس مارتن لوثر كينغ، وكان إلى جانب هذا الأخير عندما سقط صريعا، في مدينة ممفيس، برصاص أحد عُتاة العنصريين، ثم إنه خاض، مذّاك، جميع معارك السود من أجل نيل المساواة.وتلك ليس حال باراك أوباما الذي لم يعرف من كل ذلك شيئا، خلاسي نشأ في كنف عطف جدّية لأمه، الأبيضيْن، استفاد من التمييز الإيجابي، سياسةً وُضعت لتدارك تدني السود في سلم الترقي الاجتماعي، ليدخل جامعة هارفارد ويتخرج منها مختصا في القانون، ثم ليخوض بعد ذلك معترك الشأن العام، ليصبح سيناتورا، ثم رئيسا للولايات المتحدة، بيسر، أو لنقل بمشقة هي في حدود ما ينجرّ عن طبيعة السعي في طلب ذلك المنصب وطموحه إليه، فلم يعرقله في ذلك لون بشرته، بل ربما كان من العوامل المساعدة في أميركا تغيّرت، وباتت تواقة إلى تجاوز انسداداتها العرقية، فصادفت، في رغبتها تلك، ذلك المرشح الكاريزمي، الخطيب المفوّه، فتبنته.أما الفارق الأجلى بين كل من جيسي جاكسون وباراك أوباما، فهو أن الثاني نجح، للعوامل المذكورة أعلاه ولسواها، في ما أخفق فيه الأول. فقد سبق للقس جاسكون أن ترشح لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية مرات ثلاث، تمكن في إحداها (سنة 1988) من الظفر بعدد لا يستهان به من الولايات، معظمها في ذلك الجنوب ذي الماضي العنصري المشين، ولكنه لم ينلْ تزكية حزبه. ربما عاد ذلك إلى أنه لم يكن «راغبا» في الفوز، ليس لزهده فيه، ولكن لوعيه بتعذره، وهو تعذر على الأرجح ذاتي أيضا. فقد خاض القس جاكسون مغامراته الانتخابية تلك بوصفها منبرا استثنائي الأهمية والمدى، يتيح له الدفاع عن حقوق الأقلية التي يمثل، ولكنه لم يطمح إلى أكثر من ذلك، لأنه كان محكوما، في نظرته لنفسه ولموقع جماعته، بشرط سواده. إذ لا شك في أن عقودا مديدة من الرقّ ومن الاضطهاد والإقصاء قد خلّفت لدى زنوج الولايات المتحدة انكسارا، من طبيعة إحباطية، عميقا ودونيّةً متمكنة، زجّا بهما في موقع الضحية لا يبرحانه، يطالبون ولا يبادرون، لا يحلمون بـ«هيمنة» لطرح أو لتصور يتبنونهما، أو يتنكبهما طرف صادر عنهم، برسم سائر الأميركيين.وهكذا، قد لا يُعزى إلى المصادفة أن يتحقق فوز زنوج الولايات المتحدة بالرئاسة الأولى على يدي أسود مُستجلَب، لم ينشأ بين ظهرانيهم، لم يكابد تاريخهم، متحلل من معاناتهم ومن تبعاتها المُحبِطة والمكبّلة، حر بمعنى من المعاني، حتى في انتمائه الاختياري إليهم، ناشطا اجتماعيا في صفوفهم ومتزوجا منهم.ربما ما كان يمكن لذلك التحوّل إلا أن يتم بهذا النحو، بواسطة ذلك الأسود الأميركي المُستجلَب، الوحيد الذي كان قادرا على الذهاب بمطالب الزنوج خطوة أبعد، وأن صفته تلك هي التي خولته الاضطلاع بذلك الدور التأسيسي.* كاتب تونسي
مقالات
دموع جيسي جاكسون
11-11-2008