حالة تسامح!!
في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، بادرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، إلى تنظيم ملتقى فكري بعنوان «التسامح والنخب العربية» حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة اعتبار يوم 16 نوفمبر من كل عام يوم التسامح العالمي، بصدور قرار من الدورة الـ28 للمؤتمر العام لليونسكو 1995. وقد بادر البروفسور خليل الهندي في الجلسة الأولى لطرح سؤال في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركب ظل يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثماني ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الإنسان، عن «البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان» في القاهرة عام 2000، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر ورغيد الصلح وراشد الغنوشي ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين ومختار بدري وعبد الرحمن النعيمي وعلي الربيعي وسناء الجبوري وعبد السلام حسن وجاسم معروف ومبدر الويس وكاتب السطور، ودعوا إلى تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.وثانياً التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وفي الوقت نفسه لا بد من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، كما لا تعني غض الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، بممارسة التعذيب او الاغتصاب او القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم. التسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي، فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحسب اعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو « إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد...» وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، انما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب.إن التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الأشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود إلى الإقرار بحقهم بالعيش بسلام ودون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً...الخ.وإذا كان تراثنا العربي والاسلامي ليس ببعيد عن فكرة التسامح، فإن المصطلح لم يرد في القرآن الكريم وإن كان هناك ما يدل عليه مثل: العفو والصفح والمغفرة والتعارف والتواصي والتآزر وعدم الاكراه. ولعل مناسبة هذا الحديث هو وجود سببين مهمين: السبب الاول- هو صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.اما الجزء الثاني: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسيما بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين «حماس وفتح» والذي تمخض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند إلى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات. ولعله حسناً فعل حين خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظاما تعليميا يستجيب لذلك وتربية وتثقيفا على الصعد الحزبية والسياسية والدينية، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات إلى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها إلى أن تؤدي دورها في نشر ثقافة التسامح.أما السبب الثاني فهو يتعلق بالاعلان عن «تأسيس الشبكة العربية للتسامح»، حيث تم تنظيم مؤتمر صحفي في نقابة الصحافة في بيروت بحضور أربعة من الأعضاء المؤسسين من فلسطين ولبنان والجزائر والعراق، ولعل في ذلك رمزية مهمة، فهذه البلدان الاربعة تعاني العنف والارهاب وحالات اللاتسامح والتعصب والتطرف، إضافة إلى ما تعانيه فلسطين والعراق في ظل الاحتلال.وافتتح المؤتمر الدكتور اياد البرغوثي منسق الشبكة العربية للتسامح وبمشاركة من فادي ابي علام «رئيس حركة السلام الآن»، وعضو مؤسس في الشبكة، بالاعلان عن ان هذا اللقاء هو جزء من لقاءات اخرى لتعضيد الاعلان تتم في 15 بلداً عربياً، وكانت مشاورات ولقاءات قد تمت بين شخصيات فكرية وثقافية وحقوقية وعدد من منظمات المجتمع المدني طيلة اكثر من عام، إلى ان تمخضت عن تأسيس الشبكة، التي قال عنها إياد البرغوثي «انها تجمع عربي مستقل يضم عدداً من المدافعين عن حقوق الانسان من أكاديميين ومفكرين وكتاب وصحافيين ومحامين، هدفه نشر ثقافة التسامح والدفاع عن القيم الديمقراطية وترسيخها في الثقافة المجتمعية»، مؤكداً على أن مرجعية الشبكة هي « الشرعة الدولية لحقوق الانسان بكل منظوماتها، بما فيها اعلان اليونسكو، فضلاً عن الفكر الانساني التقدمي الحضاري في التراث العربي والعالمي».لقد عبر المهاتما غاندي عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده، وهو الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول « فقه التسامح في الفكر العربي-الاسلامي» بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً... ولكن أن تردّ «العدوانية» بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعله كما نضيف ليس هو الحل الأمثل!* باحث ومفكر عربي