يأخذنا العناد في غفلة من وعينا إلى الجحيم، يرمي بزهور قلوبنا في موقد الجمر، يحرق أعصابنا وأوراق الحكمة التي توارثناها منذ خلق الإنسان، يستهزئ بتوسلات عقولنا، يثير ضغينتنا ضدنا، ونمارس بتحريض منه أقسى أنواع العقاب على ذواتنا، ينثرنا طباشيرا مطحونا في يوم عاصف، يجعلنا نحطم أفئدتنا بإيدينا، يحركنا كما عرائس المسرح المشدودة بخيوط ولكنها غير مرئية.

Ad

يفعل العناد كل ذلك بدافع الحب، وهو أصدق شاهد على مقولة «من الحب ما قتل»!!

العناد يحبنا بطريقة أنانية جدا، ومريضة، ولا يقبل أن يشاركنا أحد سواه فينا، فحين يحس العناد اننا أبحرنا بعيدا بقواربنا الشراعية الصغيرة في قلب أحد سواه، واننا أصبحنا أسرى لمشيئة قلوبنا البريئة، ومشاعرنا المندّاة بالصبابة، يشتط غضبا، وغيرة، وحقدا، ويظل يرسم خطته الجهنمية، ويحيك الدسائس والمؤامرات، ويغرس بذور الفرقة والخصام، ويراقب وكله عيون لينتهز أي فرصة لاستعادتنا إليه، ولن يهدأ له بال، ولن ينام قرير العين حتى يفعل ذلك، ولن يغيب عنا حتى يطمأن إلى أننا أصبحنا في أحضانه وملك يديه، لا نشق له عصا طاعة، ولا نخالف له أمرا.

إنه محب لدرجة الجنون، ولن يتوانى في فعل أي شيء مقابل الاحتفاظ بمن يحب، ولو كان السبيل إلى ذلك، قتل من يحب، وبعض أنواع القتل التي يمارسها ضدنا هو حرماننا ممن نحب.

يتربص بنا العناد، ويفتك بنا على حين غرّه، يظل يبحث عن ثقب صغير جدا فينا ينفذ منه، ليحتلنا تماما ويوزع شياطينه داخلنا، ليتحكموا بالهواء، والضوء، والبصر والبصيرة، فلا نعود نرى سوى ما يريدنا أن نراه، ولا نريد سوى ما يبتغي، ولا نفعل سوى ما يأمرنا به، نصبح مسلوبي الإرادة والقرار، لا حول لنا ولا قوة، نأتمر بأوامره، وننتهي بنواهيه، نقدم له القربان تلو القربان طلبا لرضاه.

كم قلب عاشق أودى به العناد، وكم قصة حب عامرة بالبهاء أطاح بأركانها، وهدم قلاعها على رؤوس ساكنيها، وشرد ما تبقى منهم، ونثر أوراقهم الملونة في مهب الريح، وحفر لكلماتهم المورقة حفرا عميقة في مقابر الذكرى التي لن تعود، وجفف ينابيع أغانيهم، وأسال بدلا منها أنهار أعينهم.

ما ان توجد فرصة لخصام ما أو خلاف بسيط بين محبين، حتى يطل العناد برأسه بينهما، ويحرض كل عاشق على حدة ضد الآخر، ليكبر الخلاف بينهما قدر الإمكان، ويطول الجفاء قدر ما يخطط العناد، وإذا حاول أحد الطرفين أن يُمضي العقل في ما بينه وبين من يحب، وأدرك العناد أن هذا المحب قد قارب على كشفه، تلوّن له بوجه الكبرياء، والعزة، وحاول أن يشده مرة أخرى إلى درب القطيعة، وإذا أعيته السبل، وسوس في صدر هذا العاشق المسكين، وحلف له أغلظ الأيمان أن الطرف الآخر سيعود يقينا، فلا يستعجل هو بالمبادرة ليبقى عزيز النفس، مرفوع الجبين!! كل ذلك في محاولة من العناد لكسب بعض الوقت، علّ وعسى تنطفي صحوة العقل بعد فترة من الزمن، أو يتحرك الزمن نفسه ليطوي جذوة الغرام.

العناد أكثر أحبائنا عداءً لنا، فمن ينقذنا منه؟!!