قومية كرة القدم

نشر في 02-07-2008
آخر تحديث 02-07-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت كان الراحل آرثر كويستلر، الذي وُلِد في بودابست وأقام في العديد من بلدان العالم وكتب بالعديد من اللغات، يقول: «هناك قومية، وهناك قومية كرة القدم». الحقيقة أن المشاعر التي تثيرها الأخيرة أقوى إلى حد كبير، حتى أن كويستلر ذاته، المواطن البريطاني الفخور بالانتماء إلى بلاده والمخلص لها، ظل طوال حياته مجرياً قومياً حين كان الأمر يتعلق بكرة القدم.

من العسير بالنسبة إلى الأميركيين الذين تنحصر بطولتهم التي يطلقون عليها «العالمية» في أحداث محلية، أن يتفهموا المشاعر المتولدة في قلوب المواطنين الأوروبيين حين تتنافس دولهم على البطولة الأوروبية لكرة القدم كل أربعة أعوام. فلأسابيع عديدة هذا الصيف، استسلمت مدرجات ملاعب كرة القدم في النمسا وسويسرا، فضلا عن شوارع العواصم الأوروبية من مدريد إلى موسكو، استسلمت لطقوس وطنية عربيدة من التلويح بالأعلام والتغني بالأناشيد الوطنية وقرع الطبول، وكان الانتصار الذي حققته إسبانيا واحداً من المناسبات النادرة التي تفجرت فيها الطوائف الإسبانية كافة من كاتالونيين وكاستيليانيين وباسكيين وأندلسيين بالاحتفالات الوطنية المشتركة البهيجة.

إن كرة القدم تفوق أي لعبة رياضية أخرى في استقطاب المشاعر القَبَلية: الجهد الجماعي، والألوان الخاصة بالفرق المختلفة، والسرعة، والعنف البدني. كما قال مدرب كرة القدم الهولندي الشهير دون مزاح: «كرة القدم حرب».

لم يكن من المفترض أن تكون هذه هي الحال، فبعد حربين عالميتين أصبحت مظاهر الحماسة القومية من المحظورات في أوروبا على نحو أو آخر، إذ كانت النزعة القومية سبباً في تدمير القارة الأوروبية بالكامل تقريباً مرتين في القرن العشرين. إن هذا النوع من الوطنية المكثفة، وبصورة خاصة حين تجتمع بكبرياء المحاربين التي مازالت طبيعية بالكامل في الولايات المتحدة، كان لأمد طويل مرتبطاً بمذابح جماعية، فالبريطانيون الذين أفلتوا من احتلال وشيك من قِبَل قوة معادية، والذين مازالوا يعتقدون أنهم انتصروا في الحرب العالمية الثانية بمفردهم (حسناً، ربما بقليل من العون من الأميركيين)، مازالوا مشرّبين بمسحة من الروح العسكرية، والحقيقة أنهم يشكلون استثناءً، وربما أيضاً الأحداث الدامية التي تسبب فيها مشجعو كرة القدم الإنكليز الذين اشتهروا بسمعتهم السيئة.

ولكن رغم قمع المشاعر القومية في المجتمعات المهذبة في أنحاء أوروبا المختلفة، فإن مدرجات ملاعب كرة القدم ظلّت متعلقة بمشاعر ما قبل الحرب العالمية الثانية بكل تشبث وعناد. وتماماً كما ظل القتل موضع احتفال في هيئة أشبه بالطقوس البدائية في حلقات مصارعة الثيران، وجدت المشاعر القَبَلية المحظورة متنفساً لها في ساحات كرة القدم.

إن هذه المشاعر قد تكون احتفالية، بل وشبيهة بالكرنفالات، كما كانت الحال في بطولة اليورو 2008. إلا أنها قد تخفي شيئاً أشد قتامة وإظلاماً، وأكثر عدوانية أيضاً، وبصورة خاصة حين يتم تحميل الذكريات التاريخية على المنافسة الرياضية، فحتى وقت قريب جدا كانت المباريات بين هولندا وألمانيا، على سبيل المثال، أو ألمانيا وبولندا، تميل إلى إعادة تمثيل الحرب؛ إما في هيئة تكرار سوداوي للهزيمة في الحرب، أو في صورة انتقام عذب.

حين هزمت هولندا ألمانيا في مباراة نصف النهائي في البطولة الأوروبية في عام 1988، كان الأمر وكأن العدالة قد أخذت مجراها أخيراً، وكان عدد المواطنين الهولنديين الذين نزلوا إلى شوارع أمستردام، للاحتفال طيلة ليلة ويوم كاملين، أكثر ممن نزلوا إلى الشوارع للاحتفال بتحرير البلاد في مايو 1945. (في بعض الأحيان يختلط تاريخ كرة القدم بالتاريخ «الحقيقي»، إذ كانت الهزيمة التي ألحقها الفريق الألماني بالفريق الهولندي الخارق في المباراة النهائية لكأس العالم لكرة القدم في عام 1974 تحتاج أيضاً إلى الثأر).

كانت المشاعر القبلية لدى الألمان تعتبر لأسباب واضحة سامة ومخربة بعد رايخ هتلر، ولهذا السبب كان التلويح بالعلم الألماني حتى وقت قريب يمارس بنوع من التحفظ الخجِل الذي كان غائباً بالمرة في البلدان المحيطة، ولكن حتى الألمان يعجزون عن كبت مثل هذه المشاعر، فمازال الألمان الأكبر سناً يتذكرون فوزهم الشهير على المنتخب المجري المهيب في عام 1954، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أصبح فيها بوسع الألمان أن يشعروا بالفخر بأنفسهم، فهو نصر يمكنهم أن يحتفلوا به، وبعد أعوام من الشعور بالذنب والحرمان.

كما هي الحال مع أي شيء آخر، فإن أشكال المشاعر الوطنية تتغير مع الوقت، وأسباب العزة الوطنية متنوعة وعديدة، فحين فازت فرنسا بكأس العالم لكرة القدم في عام 1998 كان الفرنسيون مغرمون بالإشارة إلى التنوع العرقي لفريقهم. فنجمهم الأساسي، زين الدين زيدان، كان من أصل جزائري، وغيره من اللاعبين ينتمون إلى جذور في العديد من أنحاء إفريقيا. وكانت الطبيعة المتعددة العرقيات لبطولة عام 1998 تُلتَمس على نطاق واسع آنذاك ليس باعتبارها دليلاً على ماضٍ استعماري طويل ودموي في كثير من الأحيان، بل باعتبارها عنصراً للتفوق الوطني المتولد عن تسامح حركة التنوير الفرنسية وإخاء الثورة الفرنسية.

الحقيقة، إن هذا السلوك الفرنسي كان مبشراً باقتراب أمرٍ ما، إذ إن شيئاً عميقاً بدأ يتغير في أوروبا بخطوات أكيدة وراسخة رغم أنها بطيئة ومؤلمة، وإذا ما كان التنوع العرقي قد أصبح أكثر شيوعاً على الصعيد الوطني، فإنه ملحوظ بصورة أقوى في النوادي.

والنوادي أيضاً، كثيراً ما تعوّدت تمكين الولاء القَبَلي على الخط العرقي أو الديني، اعتماداً على مواقعها في المدن الصناعية الكبرى: النوادي الأيرلندية في مقابل النوادي اليهودية في لندن على سبيل المثال، أو البروتستانت في مواجهة الكاثوليك في غلاسكو، مَن كان يتصور منذ ثلاثين عاماً أن مشجعي كرة القدم البريطانيين قد يهتفون لفريق من لندن أغلب لاعبيه من الأفارقة وأبناء أميركا اللاتينية والإسبان، الذين يتولى تدريبهم فرنسي؟ أو أن الفريق الوطني الإنكليزي قد يطعَّم ذات يوم بلاعب من أصل إيطالي؟

بيد أن التنوع العرقي والثقافي ليس هو السبب كله وراء تغير وجه كرة القدم الأوروبية، فلم يسبق لي من قبل قط أن شاهدت مثل هذا الانسجام بين مشجعي الدول المختلفة كما رأيت في بطولة هذا العام، ربما كان ذلك راجعاً إلى غياب إنكلترا، التي يضم مشجعوها آخر فرق المحاربين الهواة، إلا أن الروح السلمية الاحتفالية التي سادت، والأعلام التركية والألمانية التي رفرفت جنباً إلى جنب في الشوارع الألمانية، حين التقى الفريقان في الدور نصف النهائي، والاحتفالات الإسبانية الألمانية المشتركة بعد المباراة النهائية، كل ذلك يوحي بشيء جديد.

لا أعني بهذا أن المشاعر الوطنية في طريقها إلى الزوال، حتى على الرغم من ولادة هذه الروح الأوروبية الجديدة، إلا أننا نستطيع على الأقل أن نقول إن الهويات الوطنية في أوروبا لم تعد ملونة بذكريات الحرب، فلم يعد أحد يعترض كثيراً حين تفوز ألمانيا، كما تفعل في كثير من الأحيان. والألمان أيضاً أصبحوا أكثر لطفاً حين يكون الفوز لهم، ولكن لابد أن أعترف بأنني عجزت عن كبح شعور قوي بالابتهاج حين خسرت ألمانيا أمام إسبانيا، ربما لأن إسبانيا لعبت كرة قدم أجمل، أو ربما كان في ذلك الشعور إشارة إلى الفئة العمرية التي أنتمي إليها.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ حقوق الإنسان بجامعة بارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top