خيط رفيع يفصل بين صون ممارسة التعبير عن الرأي كحق وحرية، وبين اعتباره تحريضا على العنف والكراهية أو تهديدا للأمن الوطني معاقبا عليه بالقانون.
هذا التمييز الذي تحكمه شروحات قانونية مطولة واجتهادات قضائية دولية، يهدف إلى حماية حق التعبير الحر عن الرأي في مواجهة التحفظات التي تقيده، والمنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان وفي القوانين الوطنية. فحرية التعبير عن الرأي تخضع لقيود من أجل حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق، وفقا للمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وماهية الأفعال أو الأقوال التي تهدد الأمن الوطني والنظام العام، هي التي تسمح بتطبيق صحيح لتلك المادة، خصوصا أن حماية الأمن الوطني والنظام العام، عبارات فضفاضة قد تبتلع كل ما يندرج في إطار التعبير عن الرأي إذا ما استخدمت بشكل عبثي، على ما يحصل في دولنا العربية عادة. وفي معرض حديثه عن الاعتقالات التعسفية في أوساط الإسلاميين المتهمين بحمل الفكر السلفي، يتحدث تقرير الهيومان رايتس ووتش الصادر أخيرا حول محكمة أمن الدولة في سورية، عن عدم قانونية تلك المحاكمات، التي «غابت عنها الخطوط الفاصلة بين اعتناق وإبداء آراء دينية أصولية وهو ما تحميه أحكام القانون الدولي والقيام بأعمال فعلية يجب تجريمها... والأفراد الذين لا يزيد نشاطهم عن اعتناق آراء سلفية ولا يحرضون على العنف ويلتزمون بقوانين الدولة يجب ألا يتعرضوا للملاحقة القضائية».فطبقا لأحكام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، فإن إبداء العدوانية نحو سلطات الدولة أو الدعم للأنشطة الانفصالية أو الترويج للشريعة الإسلامية، هي أمور محمية بقدر عدم ترويجها بشكل مباشر للعنف. والأقوال التي تعطي الدعم المعنوي للعنف أو الحركات الإرهابية تحميها أحكام حرية التعبير إذا لم تتمكن السلطات من تقديم أدلة مقنعة على أن أشكال التعبير عن الرأي هذه لها آثار ضارة على منع الفوضى والجريمة.وتنص مبادئ جوهانسبرغ الخاصة بالأمن القومي وحرية التعبير والحصول على المعلومات، التي نشرت عام 1995 من قبل مجموعة من الخبراء الدوليين، على أن للسلطات عقاب التعبير عن الرأي كتهديد لأمن الدولة بموجب أحد الشروط التالية لا غير: إذا كان التعبير عن الرأي يؤدي للتحريض على العنف، وإذا كان يرجح أن يحرض على مثل هذا العنف، وإذا كان هناك صلة مباشرة ووثيقة بين التعبير عن الرأي واحتمال وقوع العنف. هذا التمييز ليس بالشيء السهل من حيث التطبيق، تحكمه إلى حد بعيد مناخات الحرية في الدولة المعنية والثقافة القانوينة والديمقراطية السائدة، وتزيده تعقيدا قضايا الإرهاب وهاجس الحفاظ على الأمن الوطني، وهو ما حصل أثناء السنوات الماضية في ظل الحرب على الإرهاب على مستوى العالم ككل، فضلا عما يثيره من جدل بين السياسي والحقوقي، وهو ما حصل في قضية رجل الدين الأردني من أصل فلسطيني، أبو قتادة، المتهم بقضايا تتعلق بالإرهاب من بينها «الدعم الروحي للإرهابيين» خطبا وتنظيرا، حيث اعتقل دون محاكمة في بريطانيا بموجب قانون مكافحة الإرهاب، لكن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمت له أخيرا بالتعويض معتبرة أن اعتقاله كان انتهاكا لحقوقه، بينما عبر سياسيون بريطانيون عن خيبة أملهم بهذا الحكم مؤكدين أن الإجراء ضده إنما كان حفاظا على الأمن القومي لبريطانيا.ومع ذلك، تبقى هناك مراجعات دائمة وحملات مستمرة من قبل المجتمع المدني في أوروبا وأميركا من أجل استعادة الخيط الفاصل بين حرية التعبير عن الرأي وبين التحريض على العنف وتهديد الأمن، رغم صعوبة وتعقيد القضية في الدول الغربية. فالمحرضون على العنف أو الكراهية ممن يحملون الفكر الأصولي المتشدد، ويستخدمون تلك البلاد كسماء آمنة لهم ولآرائهم المتشددة، إنما يساهمون في تضييق الحد الفاصل بين الحق والجريمة، ويحصرون منظومة حقوق الإنسان والحريات العامة ضمن مأزق أخلاقي قبل أن يكون قانونيا.لكن يبقى المأزق الحقيقي في بلادنا العربية في ما يتعلق بهذه القضية، ليس لأن تأويل المواد القانونية يكون فضفاضا وغير محدد المعاني، وليس لأن الحد الفاصل بين ممارسة حرية التعبير والتحريض على العنف أو تهديد الأمن الوطني قد اختفى في الممارسة العملية من قبل الأجهزة الأمنية ومن ثم القضائية، ولكن لأن الأمور تسير بشكل معاكس تماما. فالأساس، أن كل ما يقال أو يكتب هو تحريض على العنف وتهديد للأمن الوطني والوحدة الوطنية. مهمة القانون والقضاء تكون فقط في التأكيد على هذه المسلّمة ودحض أي استثناءات قد ترد عليها.* كاتبة سورية
مقالات
حرية التعبير... الأصل والاستثناء
05-03-2009