إذا كان يؤرخ لوجود حركات التحرر العربية بالعقود الأولى من القرن العشرين، فإن نشاط الأحزاب السياسية بشكله الجلي، وانتشاره الملحوظ بين مختلف أبناء طبقات الشعوب العربية، بدأ في الظهور مع بداية الخمسينيات. ولقد أثر ذلك في مجمل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية. ومن انعكاسات تلك المرحلة ولادة الشعارات العربية العريضة، واقترانها بأمنيات وأحلام عربية كبيرة، وكذلك ظهور ما يُسمى بأدب الالتزام، خصوصاً بين الأحزاب القومية واليسارية.
في سبيل هدف عربي وطني كبير ومشروع، هو طرد المستعمر، ودحر العدو الإسرائيلي واستعادة كامل التراب الفلسطيني، سُخر كل شيء من أجل المعركة. معركة كرامة العربي وعزته ومستقبله. كل شيء من أجل معركة مازالت قائمة حتى يومنا الراهن، وفي مقدمة ذلك الأطروحات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وكذلك كل أنواع الأدب والفن. القصيدة، والأغنية، واللوحة، والقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والمقال، كل الأجناس الأدبية، كان يجب أن تنغمس وتتضمخ بحياة الواقع وواقع الحياة. وأن تضع نفسها في خدمته، وأن توجهها جهة بوصلة الوطن الشاخصة نحو معركتها المصيرية، وتسعى إلى تحقيق هدف وطني عربي نبيل ومقدس. لذا كان يجب أن يولد الأدب والفن الملتزم والمجسد لتطلعات الناس، وأحلام الجماهير وطموحاتها، وإلا عُدَّ أدباً رجعياً متخلفاً أو متخاذلاً، وقد يكون عميلاً إن هو خالف ذلك. في تلك المرحلة دغدغ أحلام الكتّاب الشباب أن يجدوا أنفسهم محسوبين على الأدب الملتزم، ومحسوبين على الساعين إلى تحقيق الهدف الوطني العربي الكبير، ومحسوبين على صوت المعركة، وأخيراً محسوبين على فكر الطليعة، فكر الأحزاب العربية اليسارية التقدمية الثورية المتحررة، وأن تكون أعمالهم الإبداعية متداولة بوصفها أدبيات حزبية ملتزمة، تجسد الشعارات الثورية، وتبشر بولادة الوطن الحر، والبطل القومي، والطبقة العاملة، وتشير إلى حتمية انهزام السلطة الدكتاتورية، وقيام وطن العدالة والمساواة والحب. المكتبة العربية عامرة بذخيرة كبيرة من كتب الأدب الملتزم، وذاكرة الكتّاب والفنانين العرب، تعرف تماماً تلك المعادلة الذهبية التي كان من المفترض النظر إليها واستلهام عناصرها، لكتابة أدب تقدمي جماهيري ملتزم. مثلما تعرف عشرات الأسماء الأدبية الرنانة، التي لاقت حضورها ومجدها الكبير والمدوي على حساب الكتابة الملتزمة، والكتابة الحزبية. لكن الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العالمية والعربية، ما لبثت أن تغيرت، ومعها تغيّرت معادلة الواقع، ومعادلة الأدب، ومعادلة الكتابة، ومعادلة الأحلام الكبيرة. تمخض الواقع العربي عن خواء كبير، وكذب كبير، وانهزامات كبيرة، وخيبات كبيرة، وأوجاع وصلت ببعض الكتّاب إلى حد الانتحار، أو حد اليأس والانزواء والتواري عن الأدب والحياة. وبناء على مستجدات الواقع الجديد، واقع الحياة الأوضح، وشيئاً فشيئاً، انحسر مفهوم الأدب الملتزم، والأدب الجماهيري، وطفت على الساحة الثقافية العربية، إصدارات، في كل الأجناس العربية، تخلت عن الهدف الوطني العربي الكبير والنبيل، وجعلت من حضور الأنا الشخصي ملمحها الأوضح، وكأن الهدف الوطني القومي الكبير، كان حاجزاً بينها وبين كشف أحلامها الصغيرة، وكأن الكتابة للوطن كان لابدَّ أن تمر على الكتابة عن الذات. وكأن الكتابة عن قضايا الوطن الكبيرة، كانت بالضرورة تتطلب صرف النظر عن قضايا الإنسان الصغيرة، والصغيرة جداً حد أنفاس البشر المعجونة بعرقهم، والساعية وراء لقمة عيشها، الحالمة بيوم يمر بسلام، ويكون مغطى بكرامة تبعد عنها مذلة السؤال والتسول.
توابل - ثقافات
كتابة وطن كبير... كتابة ذات صغيرة 1-2
22-07-2008