ليبرالي... أعوذ بالله!
أجمل ما يميز المجتمعات الليبرالية أيها الأعزاء، أنها واضحة وضوح الشمس في أوجه قوتها وقصورها، فالشفافية المتاحة فيها تجعلك ترى هذا المجتمع بوضوح وبكل عيوبه ومزاياه، أما المجتمعات الشمولية والسلطوية والدينية، فترتدي دائما أقنعة مزيفة ظاهرها الملائكية وباطنها لا يعلمه إلا الله.
لو ذكرت عرَضاً كلمة «ليبرالي» عند بعض القوم البسطاء، لاستعاذوا بالله من الشيطان، ولدعوه بألا يبتليهم بما ابتلى بعض خلقه، ممن ماتت غيرتهم وتفسخوا من الخُلق والدين، وصاروا يدعون الناس إلى الانحلال والعري والفسق بكل أشكاله، فـ«الليبراليون» في نظر هؤلاء القوم ليسوا سوى دعاة للشهوات والملذات، ما ظهر منها وما بطن، وهم كالأنعام في عيشتهم، بل هم أضل سبيلا!ولن يصدقك أحدهم- ولو حلفت له بأغلظ الأيمان- أن الليبراليين بريئون مما يظن، وأنه من الممكن أن يكون المرء ليبرالي الفكر، وذا خلق ودين في نفس الوقت، فهذه لن تدخل إلى دماغه أبدا ولو حشرتها حشرا، فالليبرالي سيظل في نظره كافراً زنديقا ولن تثبت براءته أبدا، وسيحشره الله هو ومن اتبعه في نار جهنم خالداً مخلداً!أمر مثير للسخرية حقا، وللأسف أيضا! هؤلاء القوم لا يعلمون أن هناك من يخدعهم ويضللهم، ويصور لهم الأمور على غير حقيقتها، من أجل مصالح ومكاسب حزبية ضيقة، وهم معذورون على أي حال، فقد نشؤوا في مجتمعات لا تعرف سوى الرأي الواحد، والمذهب الواحد، والفقيه الواحد، والحقيقة المطلقة الواحدة، وقد أخذت وكالتها منذ زمن الجماعات الدينية واحتكرتها إلى الأبد! هناك لبس واضح في مفهوم الليبرالية عند المواطن العربي بشكل عام، ويتحمل الليبراليون جزءاً من أسبابه لقلة أنشطتهم التوعوية بين الشرائح قليلة الثقافة في المجتمعات العربية، بينما تتحمل الجماعات الدينية الجزء الأكبر من تشويه صورة الليبرالية والليبراليين، لأنهم في ظل وجود مجتمعات عربية ليبرالية سيكونون الخاسر الأكبر، وسيقل نفوذهم في الأوساط الشعبية مع ازدياد الحريات الفكرية والعقائدية والسياسية، وبالتالي ستتلاشى سيطرتهم على العقول، وتتضرر مصالحهم الحزبية والمالية كثيرا!يجب أن يعلم الجميع أن الليبرالية كفلسفة ليست نقيضا للدين، ولا تناصب الأخلاق والعادات والتقاليد المتوارثة «المحمودة» العداء، ولا تفرض على الآخرين عقيدة أو إيديولوجيا معينة، بل هي وعاء يحوي كل المعتقدات السياسية والفكرية والدينية، وتدعو إلى التعايش في ما بينها، من دون سيطرة معتقد معين على باقي المعتقدات!وهي تُعنى بالإنسان الفرد بشكل أساسي، حين تضمن له حريته في الاختيار، كما يريد هو لا كما يريد الآخرون، حريته في اختيار دينه وتوجهه السياسي والفكري، والجهر برأيه من دون قيود من أي نوع، لكنها حرية ليست مطلقة كما يتصور البعض، فهي تأتي متوافقة مع القوانين العامة للدولة المدنية، ومع الأخلاق والقيم المتعارف عليها في كل مجتمع، بحيث لا يتم التعدي على حقوق الآخرين، فالغاية منها وجود مجتمع حر، فيه كل ألوان الطيف السياسي والفكري والديني، ولأفراده نفس الحقوق والواجبات والحريات، من دون إفراط ولا تفريط!والأمر المهم هنا، أن يفهم الإخوة المتخوفون من الليبرالية، أنها لا تدعو إلى الفوضوية أو الإباحية، إنما غايتها ألا يفرض أحد على أحد طريقته ومنهجه في الحياة، فحين يكون المرء متدينا أو ملحدا أو بلا دين، فإن هذا شأن يخصه وحده، لكن لا يجوز له أن يفرضه على غيره، وحين يكون المرء فاسد الأخلاق منحط القيم، فهذا أمر يخصه، شريطة ألا يفرض فساده على أحد، فهو هنا يكون قد اعتدى على حرية الآخرين في الاختيار، وهو أمر يناقض الليبرالية في أساسها!وأجمل ما يميز المجتمعات الليبرالية أيها الأعزاء، أنها واضحة وضوح الشمس في أوجه قوتها وقصورها، فالشفافية المتاحة فيها تجعلك ترى هذا المجتمع بوضوح وبكل عيوبه ومزاياه، أما المجتمعات الشمولية والسلطوية والدينية، فترتدي دائما أقنعة مزيفة ظاهرها الملائكية وباطنها لا يعلمه إلا الله، وهي بتسلطها على الناس تعلمهم التقية والرياء والنفاق الاجتماعي والسياسي، والانفصام في الشخصية بين حقيقتها وما يريدها المجتمع أن تكون عليه، وترى هناك دائما تناقضا صارخا بين رغبات مكبوتة ووقار مصطنع، وبين ما يدور في الذهن من إلحاد وكفر وهرطقة، وما يجري على الألسنة من بسملة وحوقلة واستغفار!الليبرالية لم تكن يوما عدوة للدين بل عدوة للحجر على العقول، ولم تكن يوما عدوة للأخلاق، بل عدوة للنفاق والزيف والرياء، وليست دعوة للإباحية والفجور، لكنها دعوة للحرية ضمن إطار القانون والأخلاق المتعارف عليها... اللهم هل بلغت اللهم فاشهد!