نجم عن تطور تكنولوجيات الاتصال، على نحو جعلها في حِل من الشروط والحدود والمحددات الترابية للأوطان والجماعات، بانتمائها إلى حيّز مفارق، يتمثل في الفضاء الخارجي، ذلك الذي تتوسله «الفضائيات»، أو في صنو له «افتراضي»، هو مجال شبكة الإنترنت، تحوّلُ الـ«ميدياقراطية»، كما سبق توصيفها في مقالة الأسبوع الماضي، إلى ظاهرة كونية، أوجدت لأول مرة في التاريخ ربما، انفصالا بين السلطة والعملية الإعلامية، أوجد بدوره تبايناً بين مجاليْ فعل كل من المرتبتين تينك، طالما أن السلطة لاتزال مرتبطة بحيز ترابي معلوم مُعرّف، أضحت العملية الإعلامية متحررة منه على نحو ناجز أو يكاد.
ليس أدل على ذلك التفاوت المستجدّ من عسر الرقابة في زمننا هذا أن تمارسها سلطة من السلطات، فهي في ما يخص الإعلام الفضائي متعذرة ممتنعة، لا يجدي في شأنها منع ولا قمع، وهي في ما يخص شبكة الإنترنت بالغة النسبية، إذ إن وسائل مداورتها وفيرة وعلى قدر من نجاعة.فهل أدى ذلك إلى تمكين حرية التعبير وإلى توسيع مداها لتصبح في متناول من كان من مزاولتها محروماً، على ما يقول رأي شائع، ربما مال إلى الخلط بين الكم والنوع؟ الأرجح أن لا أو، على الأقل، ليس بالقدر الذي يُصوّر عادةً، وذلك لأسباب متعددة: أولها ذلك الذي صير إلى تناوله، على أعمدة هذه الصحيفة، في مناسبة سابقة، من أن الإعلام المعاصر، ووسائله التقنية المستجدّة، قد نجحت بالفعل في إرساء ضرب من حرية، ولكنها تتوقف عند «حرية التلقي» ولا ترقى إلى مصاف «حرية التعبير»، ومن أن تلك لا تعني، بداهةً، هذه. بمعنى آخر، إذا كانت «حرية التلقي» أضحت مضمونة أو في حكم المضمونة، في متناول كل مُشاهد، وأحيانا كل قارئ، مستفيدٍ من تراجع الرقابة أو من تلاشي دورها، فذلك ليس حال «حرية التعبير» التي لاتزال خاضعة لسطوة المال ولسطوة السلطة السياسية، واقعة تحت نفوذهما، معا أو إحداهما دون الأخرى.ولعل أهم ما يُستخلص من ذلك، إن سلمنا به، أنه لا سبيل، في ذلك المضمار، إلى التعويض بالوسائل التقنية، مهما بلغت تطورا وأداءً، عما أخفقت وقصرت في تحقيقه السياسة، أي أن «حرية التعبير» تظل متعلقة بالحريات الأساسية، وباجتراح المواطن القادر على التعبير في كنف نصاب ديمقراطي، وأننا لن ننال، في غياب ذلك، من «حرية التعبير» إلا ما كان من قبيل الضوضاء وحفلات الردح والتشاتم التي تملأ شاشات فضائياتنا. هل من باب المصادفة مثلا إن الكشف عن أي من الوقائع الفارقة والمشينة التي حفت بغزو العراق واحتلاله، من فضيحة معتقل أبو غريب إلى جريمة استخدام اليورانيوم المنضّب ضد المدنيين إلى سواهما، لم يتحقق بفعل وسائل إعلامنا وفضائياتنا العتيدة، بل حصرا بفعل وسائل إعلام غربية تفهم مزاولة حريتها على أنها السعي وراء المعلومة وإيصالها إلى الناس؟ثم إن الـ«ميدياقراطية» إذ سادت كونيّا على نحو ما أشرنا، أوجدت وهما بالمساواة أمام الخبر والمعلومة والرأي بين سكان المعمورة، أي بين كل المتمتعين بـ»حرية التلقي» في كل مكان، مادام يُفترض فيهم أنهم يتلقون نفس الخبر، آبقا عن كل رقابة، في نفس اللحظة، وبنفس الطريقة وبذات الصور في أحيانا كثيرة، لا فارق في ذلك بين من يعيشون في كنف ديمقراطية مستتبة، وبين من يكابدون استبدادا مطبقا، وإن تفاوت درجاتٍ واستفحالا.أما عن وجه الوهم في إرساء تلك المساواة فقوامه أن «الميدياقراطية» ووسائلها، إذ امتلكت إمكانات وتقنيات مخاطبة الجميع دون تخصيص، وبصرف النظر عن كل تحديد ترابي، لم تتوصل إلى ذلك بواسطة مخاطبة الفرد مواطنا في كل مكان، باسم «مبادئ كونية» تأخذ بها، بل بواسطة تسليع الإعلام، بمعناه الأوسع، وتوخي تقنيات السوق في ترويجه، شكلا ومحتوى. وبذلك، فإن الميدياقراطية، لا تتوجه إلى متلقّ، تفترض فيه صفة المواطنة، في كل مكان، بل إنها تخاطب مستهلكا، نجح اقتصاد السوق المعولم، في تنميطه، والفارق جلي بين المقاربتين، حيث إن السوق، ومتطلباته، حيادي حيال المبادئ الكبرى، من مواطنة أو سواها، أقله ما ظلت النيوليبرالية مستحكمة، كما كانت الحال طوال العقدين الأخيرين اللذين شهد آخرهما، لا سيما ذلك البوشي، خلطا فظيعا بين حرية السوق وحرية الإنسان، كانت له من العواقب الوخيمة الكثير.لذلك، يمكن القول إن الميدياقراطية، وقد أضحت شأنا كونيا، قد شوشت فكرة الحرية، بدءا بحرية التعبير ذاتها، فبهّتت وظيفة الإعلام وابتسرتها، من حيث زعمت تعزيز حريتها، بأن ألحقتها رديفا لحرية السوق لا أكثر من ذلك، حتى إن مولتها دول، تأخذ في ذلك بتقنيات السوق ومتطلباته، تماما كما تفعل عندما تدخل غمار سوق المال بواسطة صناديقها السيادية.* كاتب تونسي
مقالات
الـ ميدياقراطية وابتسار حرية التعبير
02-12-2008