إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
أيهما أهم: إصلاح النظام السياسي في سورية أم استعادة الجولان المحتل؟ قد يتذمر كثيرون من طرح المسألة بهذه الصورة، وينحازون إلى الفصل بين المطلبين اللذين يحمل كل منهما شرعيته باستقلال عن الآخر... نشاركهم الانحياز، لكن من يربط سلبا بين المطلبين هم أصحاب الكلمة العليا في شؤون البلاد منذ عقود تنوف على أربعة، ومعلوم أن أبرز حجج استبعاد إصلاح سياسي جدي، أي ذي وجهة ديمقراطية واستيعابية، هي المواجهة المفترضة للعدو الذي يحتل الجولان منذ عام 1967. في عالم سياسي وفكري سوي، لا توضع مطالب الإصلاح السياسي مقابل استعادة أراض محتلة ولا هذه مقابل تلك، ويفترض المرء أن جدول الأعمال الوطني يتضمن البندين معا، وربما يمنح أولوية لإصلاح مستمر للنظام السياسي لما له من مفعول إصلاحي محرض وتراكمي على جوانب الحياة الوطنية الأخرى، ولأنه كذلك يضع البلد في موقع أفضل، سياسيا وأخلاقيا، للعمل من أجل استعادة الأرض المحتلة. ولنتصور للحظة لو أن سورية باشرت إصلاحا سياسيا جديا في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وقت كانت تقف أمام أزمة وطنية خطيرة. الأرجح أنها كانت تفادت أسوأ وقائع الأزمة تلك، أو أقله لأمكنت معالجة تلك الوقائع بصورة تنعكس إيجابا على التماسك الوطني، ولربما كانت البلاد اليوم في حال يضاهي حال تركيا التي لم تكن سورية حينها تتأخر عنها في شيء... هذا لأن الإصلاح السياسي، بما يعنيه من تنقية الأجواء العامة في البلد، الاجتماعية والسياسية والنفسية، ومن تمكين أوسع للشعب السوري من صنع مستقبله والتحكم بشروط حياته، ومن تغليب للكفاءة والقدرة على الولاء والمحسويية، وبالخصوص من تنظيف الحياة العامة من الخوف والكذب والفساد، ومن طي صفحة المراوغة والتلاعب الإيديولوجي والسياسي بالقضايا العامة، يعود بآثار محفزة وإيجابية على مختلف جوانب الحياة الوطنية، التعليمية والاقتصادية والثقافية والنفسية، وبالتأكيد أيضا الأمنية. ولنتصور، بالمقابل، أننا شرعنا اليوم في عملية إصلاحية جدية تنضبط بمبادئ المواطنة والمساواة والحريات العامة والانتخابات العامة وتداول السلطة، أو تضع جدولا زمنيا ضمن أمد معقول، حتى عام 2015 مثلا، لإعادة هيكلة النظام السياسي وفقا لهذه المبادئ. يصعب حصر مقتضيات توجه كهذا وآثاره القريبة والبعيدة والديناميات التي قد يطلقها، أما صعوبة العملية الإصلاحية ذاتها فقد تكتسب طابعا نسبيا من إدراجها في جهد عام للنهوض الوطني، وانتفاض على الفساد والخمول والتأخر الذي تغرق فيه البلاد، وتفادي أسوأ المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ولنتصور أخيرا أننا بلغنا عام 2030 أو 2035 دون أي تغيير في هياكلنا السياسية، فوق ما نرجح أن يكون ذلك قد اقتضى من إكراه وكراهية وإحباط، فإن من الوارد جدا أن تكون البلاد في وضع مزرٍ على مستويات متنوعة، ربما تشبه سورية في ذلك الوقت بلدا إفريقيا من حيث انتشار الفقر والفساد (لا «تتفوق» عليها في الفساد اليوم غير العراق والسودان حسب «منظمة الشفافية الدولية»، وتحتل الموقع 147 من 180 دولة غطاها مسح المنظمة عام 2008)، ووجود نسبة ضئيلة من أصحاب الثروات النافذين في مراتب الحكم العليا، ودمار متقدم جدا للفكرة الوطنية، ومستوى متقدم من فقد احترام الذات عند أكثرية السكان، وشعور معمم بالغربة والاختناق. كل ذلك موجود منذ الآن، لكنه ربما يأخذ بعد عقدين من اليوم أبعادا مهولة تجعل الإصلاح أقرب إلى الاستحالة، ونعلم طريقة المستحيلات في التحقق: بالكوارث والدمار والخراب العميم.
من الحكمة أن يمتنع المرء عن التنبؤ بالمستقبل، لكن أن تبقى أوضاعنا السياسية كما هي لعقدين قادمين أمر محتمل فعلا، فثمة تركيز مفرط من قبل النظام على البقاء في صيغته هذه دون تغيير، واستعداد للقيام بأي شيء من أجل ذلك، وهو ما لا يمكن استبعاد أن يفوز به فعلا. ولما كان النظام السياسي في البلاد متحكما في جميع جوانب الحياة العامة، فإن مسار التردي العام وحده سيستمر إن لم يجر تغير سياسي جدي، فالصيغة السياسية الراهنة خانقة وقامعة للمبادرات الاجتماعية والفكرية والثقافية التي قد تنعش البلد، وقد تتغذى استدامتها من الخشية مما هو أسوأ، وهي خشية تتغذى بدورها من الاستدامة تلك، ويغذيها النظام نفسه. بالعكس، من شأن إصلاح يوسع قواعد المبادرة الاجتماعية أن يطلق ديناميات منشطة فعالة تغير سورية وتصلح مزاجها وترفع معنوياتها. هذا أهم من الجولان بكثير، لأنه ليس لاسترجاع الجولان، وسيكون تفاوضيا بالطبع («طبع» المدى المنظور الذي تجري فيه المفاوضات السورية الإسرائيلية حول الجولان)، مفعول محرر ومجدد للحياة العامة في البلد. لا ريب أن من شأن إصلاح سياسي بالمضمون الذي نتكلم عليه أن يجعل حكم البلاد أشد صعوبة، لكن الخيار الحاسم من وجهة نظر المصلحة الوطنية ليس بين حكم سهل وحكم صعب (الأفضلية للسهل طبعا)، بل بين حكم سهل مقترن بتخلف البلاد وشللها، وحكم صعب يجعل من تفضيلات السوريين مصالحهم المتعارضة مرجعية حصرية لشرعيته. المداولة الديمقراطية أبطأ كآلية لاتخاذ القرار من انفراد دائرة ضيقة في قمة السلطة بالقرارات المصيرية، بيد أن توسيع قاعدة اتخاذ القرار وتفاعل قاعدة اجتماعية أوسع معه من شأنها أن تعوض هذا البطء، وتقلبه على تمرس اجتماعي بالسياسة والشأن العام، سواء على المستوى الوطني أو على المستويات المحلية، هذا فضلا عن أن توسيع القاعدة الاجتماعية للسياسة تضفي صفتي الاستدامة والتراكمية على العملية الإصلاحية، وتطور نموذجا متماسكا للتقدم الوطني، تجتمع فيه الحريات مع التنمية والوحدة الوطنية والاستقرار السياسي. * كاتب سوري