حديقة الإنسان: كتب مشاكسة!

نشر في 27-06-2008
آخر تحديث 27-06-2008 | 00:00
 أحمد مطر من الظواهر الغريبة في عالم التأليف، أن بعض الكتب يمارس على مؤلفيه نوعاً غليظاً من المشاكسة، ويستحيل أحيانا إلى شراك يصعب التخلص منه- أو إلى عقد مستحكمة ترافق الكاتب طول حياته من دون أن يفلح في حلها برغم كثرة المحاولات.

وأطرف ما في هذه الظاهرة هو انها تختص بالكتب الناجحة جداً. والمفارقة هنا هي أن فرحة الكاتب بنجاحه تشبه إلى حد بعيد شعوره بغصة الفشل، ذلك لأن نجاح الكتاب يقوم كحائط سميك من «الكونكريت» يحجب وراءه الإبداعات التالية جميعها للكاتب، أو ربما يتطاول حتى يحجب الكاتب نفسه.

وتلك الظاهرة قد تتعلق بروعة مضمون الكتاب كله، أو بروعة بناء إحدى شخصياته.

خذ مثلاً على ذلك أن السير آرثر كونان دويل مبتكر شخصية «شرلوك هولمز» قد بلغ من النجاح حداً جعله أسيراً بالفعل لهذا المفتش الخاص المختلق، ذلك أنه بعد سلسلة طويلة من القصص حاول أن يستريح، فدبر محاولة لقتل هولمز، لكنه لم يدرك عقم محاولته هذه إلا عندما وجد أن جمهور القراء قد حاصر بيته في مظاهرة احتجاج مندداً فيها، بجدية بالغة، بدويل المجرم الذي قتل هولمز، ولم ينجُ دويل من غضب الجمهور إلا حين ابتكر، رغم أنفه، حيلة أدبية، أعاد فيها شخصية هولمز إلى الحياة، وربط رقبته في حبلها إلى آخر حياته!

ومن أمثلة هذا، عندنا تلك العقدة الحادة التي عاناها الأديب العظيم «يحيى حقي»، بسبب قصته «قنديل أم هاشم»، فعلى رغم انه أحد أبرز رواد القصة القصيرة في العالم العربي، وله منها رصيد ضخم ومهم، وعلى رغم إبداعه العديد من القصص الطويلة المهمة الأخرى، وعلى رغم اتحافه المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تضمنت مئات المقالات في شتى النواحي التاريخية والأدبية والفنية، فإنه عاش ومات وهو مدموغ بهذه القصة، ولا يشار إليه إلا بأنه «صاحب القنديل»!

وأحسب انني قرأت له في أكثر من موضع تعبيره عن الضيق والنفور من هذا الوصف الخانق الذي لا يريد أن يتزحزح قليلاً ليفسح المجال لبروز إبداعاته الأخرى.

ومن طريف ما قرأت، في هذا المجال، كتاب «فرنسا والفرنسيون... على لسان الرائد طومسون» للكتاب الفرنسي «بيير دينانوس»، فهذا الكتاب الذي نقله إلى العربية الدكتور ثروت عكاشة، يقف في منزلة واحدة مع تلك الكتب التي شكل نجاحها مقلباً لأصحابها!

كان دانينوس قد نشر فصول هذا الكتاب عام 1954 كمقالات متتابعة في صحيفة «فيجارو» الباريسية، ثم ما لبث أن أصدرها في كتاب في السنة نفسها، فإذا به ينجح نجاحاً مذهلاً، ويترجم إلى العديد من اللغات، ويباع من طبعته الفرنسية وحدها، في ذلك الوقت، أكثر من أربعة ملايين نسخة.

وأعجب ما في أمر هذا الكتاب هو أنه ليس عملاً روائياً، بل مجرد مقالات تستقصي بالنقد الساخر جميع ما وقع للمؤلف عن فرنسا والفرنسيين، لكنه مع ذلك، أُعد ليصبح مسرحية، ثم سجل على اسطوانات وتحول بعد ذلك إلى فيلم سينمائي! ولأن دينانوس قد خشي من غضبه الجمهور الفرنسي عليه إذا هو صارحه بآرائه، فإنه ابتكر شخصية ضابط إنكليزي متقاعد اسمه «طومسون وليام مارماديوك»، وزوجه من امرأة فرنسية، وجعله يعيش في باريس، ثم وضع على لسانه جميع الآراء الساخرة في الحياة الاجتماعية الفرنسية، واكتفى بأن يكون مساعداً للضابط المتقاعد ومترجماً لمذكراته!

ولأنه نجح جداً في بناء شخصية طومسون، ونجح إلى حد بعيد في رصد تفاصيل الحياة الفرنسية وتناولها بالنقد بأسلوب ساخر بالغ الروعة، فإن شخصية ذلك الرائد الإنكليزي قد طغت على شخصيته جداً، بل استطاعت أن تمحوه تماماً، على الرغم من أنه قد حاول، من خلال شخصيته كمساعد ومترجم فرنسي، أن يرصد حياة الإنكليز وسلوكهم بالنقد الساخر في موازاة نقده للفرنسيين.

وبلغ من طغيان شخصية الرائد طومسون، ان الناس باتوا يذكرونه وينسون المؤلف، حتى ان سفير بريطانيا في باريس قد كتب إليه بعد صدور الكتاب قائلا: «كم سأكون شاكراً لو أبلغت تهنئتي للرائد طومسون، وكم سأكون سعيداً لو أني رأيت توقيعه على الإهداء»!

بل إن إحدى القارئات الفرنسيات ضاقت ذرعاً بعبارات النقد الساخرة التي وجهها ذلك الضابط الإنكليزي «الخيالي» إلى الفرنسيين، فعابت على دينانوس اهتمامه بترجمة ذلك الكتاب الذي لا يقبل فرنسي على ترجمته إلا إذا كان مرتشياً!

ومن الطبيعي، بعد ذلك، أن تصبح شخصية طومسون المختلفة مثيرة لغيره دينانوس، لأنها استأثرت بالشهرة من دونه... وهذا ما عبّر عنه في كلمته أمام إحدى الجمعيات البريطانية التي استضافته في ذلك الوقت، إذ قال: «ما أشد حمقي حين استضفت إنكليزياً في كتابي، فإذا هو ينحّيني جانباً ليأخذ مكانه في الكتاب، وإذا أنا لا مكان لي فيه، حتى بتُ أتساءل عن دعوتكم: هل كانت لي أم للرائد طومسون؟!».

وكلمة دينانوس هذه تذكرنا بكلمة مماثلة للكاتب الكبير الطيب صالح، المبتلي هو أيضا بنجاح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي حجبت بشهرتها رواياته وكتبه الرائعة الأخرى.

ففي منتصف الثمانينيات كان الطيب صالح قد دُعي إلى تونس، وكان حينذاك موظفاً في «اليونسكو»، فروى في كلمته أمام مضيفيه أن رجلاً عربياً استوقفه ذات يوم ليسأله: أأنت أبو صالح الطيّب؟

وتجاوز الطيب عن ذلك التصحيف الذي لحق باسمه، وأجاب: نعم... أي خدمة؟،

فإذا بذلك الرجل يسرف في إبداء حفاوته بالكاتب قائلاً إنه من أشد المعجبين به، وإنه قرأ له ديوان شعر اسمه «هجرة الشمال إلى الجنوب» وقد أعجب به كثيراً!

وبعد هذه «اللخبطة» التي سببتها شهرة روايته حتى جعلت رجالا لم يقرأوها يحوّلونها إلى ديوان شعر بعنوان مختلف ولمؤلف مختلف، خلص كاتبنا إلى مخاطبة مضيفية قائلاً: إن هناك موظفاً في «اليونسكو» اسمه الطيب صالح، كما أن هناك رجلاً آخر يحمل الاسم ذاته يكتب القصص وما إلى ذلك، وأنه يخشى أن يكونوا قد وجّهوا الدعوة إلى الأول فجاءهم الثاني!

* شاعر عراقي

back to top