منذ سبعينيات القرن الماضي مُني الإعلام المصري بصحافته وبثه- المرئي والمسموع- بتراجع حاد أفقده التأثير والجاذبية، وتزامن ذلك مع صعود نجم صحافة المهجر التي اتسمت باتساع هوامش الحرية فيها فضلا عن بروز فضائيات الدول الخليجية بإمكاناتها المالية الجبارة لاحقاً،

Ad

وكانت بداية مسيرة الإعلام المصري فتية ولامعة أثناء مرحلة التنوير والحداثة، ثم انتقل إلى مرحلة النقد الأدبي لكبار أدباء مصر ومفكريها، ومرحلة التنافس السياسي في أوج الحياة الدستورية الديمقراطية المصرية في النصف الأول من القرن المنصرم، لتطل علينا مدرسة علي ومصطفى أمين الخبرية، وتواصلت مسيرة الإعلام المصري لتدخل بعدها في مرحلة «التعبئة والتجييش» التي كانت السمة الأبرز له في عصر ثورة الضباط الأحرار، وهي سمة مازالت تخيم بظلالها عليه حتى الآن... باستثناء بعض المتغيرات الطفيفة التي أضافتها أخيراً الصحافة الحزبية والفضائحية وعدد من الفضائيات الخاصة.

بيد أن الإعلام المصري انكشف بصورة لافتة عقب العدوان الإسرائيلي على غزة، وبدا خلال الأحداث الحالية والهجمة التي تعرضت لها مصر أخيراً، لاهثا في محاولته اللحاق بالأحداث بردود أفعال متفاوتة ومرتبكة حيال ما يأتيه من نقد من طهران وبيروت ودمشق وعواصم أخرى وجماعات سياسية مختلفة.

فالإعلام المصري لم يخرج حتى الآن من مرحلة «التعبئة» إلى مرحلة الحرفية المتوافرة لدى قطاع واسع من كوادره، ومازال رغم مرور ثلاثين عاما على «خيار السلام» واتفاقياته في «كامب ديفيد» يستحي أو يتردد في القول صراحة إنه خيارنا وخيار العرب الأوحد.

فأصداء صوت «أحمد سعيد» مازالت تتردد في كواليس الإعلام المصري على نحو يظهره بصورة المرتبك والمتردد، ليفقده مصداقيته ويقلص من حضوره، وغالبا ما نرى الإعلام المصري- القومي والخاص- ينحو أثناء الأزمات العربية إلى لغة التعبئة وتحريض الشارع، وكأنه يُعِدّ لمعركة وشيكة، وعندما يصل بالشارع إلى مرحلة الغليان الخطرة يلتف ليفتح ساحة معركة جديدة مع طرف خارجي بلغة غالباً ما يشوبها التخوين... وأحياناً «الردح».

والمؤسف أيضا تدني قيمة المعلوماتية والصدقية لدى بعض رجال الإعلام المصري، خصوصا في ما يتعلق بالمعلومات الأساسية بشأن بعض الدول العربية وتركيباتها السياسية والاجتماعية، وينكشف هذا الأمر بشكل واضح حينما يتناول هذا الإعلام الشأن العراقي، إذ مازال هناك قطاع كبير من الإعلاميين المصريين يتعامل بسطحية مع تفاصيل الحالة العراقية وأطياف القوى الاجتماعية والسياسية المستجدة فيها بعد سقوط النظام السابق فضلا عن علاقاتها الإقليمية، إلى حد أن صحافياً مصرياً كان يتحدث في برنامج تلفزيوني محلي عن حزب «الدعوة العراقي»، معتقداً أنه حزب قومي منشق عن «حزب البعث»!

وكان من الطبيعي أن تستمر حالة الارتباك في الإعلام المصري، طالما ظل تحت تأثير «مدرسة التعبئة» في ظل خيار السلام السائد، وطالما ظلت جرعة العواطف المفرطة، التي تحكم الشخصية المصرية، تسيّر التوجهات في التعامل مع التطورات الأخيرة، وطالما بقيت مقولة الجمهور »عايز كده» التي استغلها «الإخوان المسلمين» بذكاء لمهاجمة النظام المصري وتجريحه في الأحداث الأخيرة.

ورغم درايتنا بمدى تعاطف الشعب المصري مع القضايا العربية، فإن حالة المسايرة الإعلامية دون ضوابط أو وعي تجعله وقوداً لأجندات مشاريع كثيرة متصارعة في المنطقة، طالما أن توجهات ومفاهيم الإعلامي المصري مازال شعارها وأسلوبها التعبوي أعلى من حرفيتها التي يمكن أن تسود، فتردم هوة الإمكانات الفنية والمالية مع منافسيها، فتعود به إلى سابق تأثيره على الشارعين المصري والعربي.