المقاومة بالكاريكاتير (2- 4)
على مدار القرنين الماضيين راح فن الكاريكاتير يشتد ساعده، حتى صار أحد أفعال المقاومة المدنية، وهي المسألة التي يلخصها الكاتب الساخر آرت بوش والد بقوله: «أي دكتاتور يخشى الكاريكاتير السياسي أكثر من القنبلة الذرية». وهذا قول غير مرسل، إنما يتكئ على أسانيد رسختها مواقف ووقائع وأحداث مشهودة. فرسامو الكاريكاتير تمكنوا من فضح سياسيين فاسدين حتى أطيح بهم، وبذا باتوا طرفا يُخشى جانبه، ويقع في مرمي نيران أي سلطة مستبدة، ومن ثم طالما تعرضوا للملاحقة والمساءلة والاعتقال والسجن في مختلف دول العالم. وعرف العالم العربي فن الكاريكاتير حين ظهرت في مصر صحيفة «أبو نظارة» عام 1877، الذي أبدع شخصيات كاريكاتيرية مشهودة من بينها «شيخ البلد» التي ترمز إلى الخديوي إسماعيل، و«أبو الغلب» الذي يرمز إلى الفلاح المصري المطحون. وغضب الخديوي فأغلق الصحيفة ونفى صنوع إلى باريس لكن الأخير لم يصمت بل أعاد إصدار صحيفته تحت أسماء أخرى مثل «أبو صفارة» و«الحاوي الحكاوي». وفتح أبو نظارة الباب أمام ظهور صحف ساخرة فأصدر المناضل الكبير خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم صحيفة «التبكيت والتنكيت»، ثم ظهرت صحيفة «الابتسام» بالإسكندرية عام 1894 التي كانت أول صحيفة عربية تضع رسما على غلافها.
وفي العام نفسه أصدر محمد النجار صحيفة «الأرغول» وفي العام الذي يليه أصدر حسن حلمي صحيفة «الطرائف»، وبعدها بعامين ظهرت صحيفة «الصاعقة» التي أسسها أحمد فؤاد وإبراهيم حلمي. وفي عام 1898 ظهرت صحيفتا «الحيلة الكدابة» و«الفكاهة»، وفي العام التالي له أسس محمد توفيق الأزهري ومحمد حلمي عزيز صحيفة سماها «حمارة منيتي».وقبيل الحرب العالمية الأولى أصدر سليمان فوزي وأحمد حافظ عوض مجلة «خيال الظل»، وأثناء الحرب، وتحديدا في 15 فبراير 1915، ظهرت مجلة «اللطائف المصورة»، التي كانت تزاوج بين الفكاهة وبين العلم والأدب، على يد إسكندر مكاريوس، وعاد سليمان فوزي ليصدر مجلة «الكشكول» عام 1921 التي كرست جهدها لمهاجمة حزب الوفد وزعمائه، مما دفع طلاب وجمهور من أنصار الحزب إلى حرق مقر المجلة عام 1924، وهو العام الذي أعاد فيه الوفد إصدار مجلة «خيال الظل» ليواجه «الكشكول»، وبعدها أصدرت دار الهلال مجلات «كل شيء» و«الفكاهة» و«الدنيا»، وفي عام 1927 تحولت مجلة «روز اليوسف» بعد سنتين من صدروها إلى مجلة سياسية بعد أن كان الفن هو مادتها الرئيسة، واستخدمت الرسوم الساخرة الملونة، وسلكت مجلة «آخر ساعة» التي أسسها محمد التابعي عام 1934 الدرب نفسه، وكذلك مجلة «صباح الخير» التي أصدرتها روز اليوسف عام 1951 لتخاطب الشباب. وبعد أن نهض فن الكاريكاتير في مصر على يد فنانين أجانب منهم الأسباني سانتيز والتركي رفقي والأرمني صاروخان، قام على أكتاف فنانين مصريين كبار من أهمهم عبد المنعم رخا وعبد السميع عبد الله زهدي وصلاح جاهين وجورج البهجوري ومحيي الدين اللباد وجمعة فرحات وماهر ومصطفى حسين، الذي كون مع الكاتب الساخر أحمد رجب ثنائيا مبدعا، أنتج شخصيات كاريكاتيرية دالة ولامعة، مثلت مختلف شراح المجتمع المصري، وانتقدت أداء الحكومات المتعاقبة، وتحولت في أذهان القراء إلى شخصيات من لحم ودم، وهذا غاية من يصل إليه الفنان من نجاح. وصدرت أول صحيفة هزلية في سورية عام 1909 باسم «ظهرك بالك» لتفتح الطريق أمام إصدار عدة مجلات كاريكاتيرية مثل «البغلة» و«حمارة الجبل» و«حارة بلدنا». وفي عام 1923 عرف لبنان هذا الفن بصدور صحيفة حملت اسم «عيوظ» تبعتها مجلة «الدبور» التي اتخذت من هذا الفن مادة أساسية لها. وفي تونس صدرت عدة صحف ومجلات ساخرة منها «النقاد» و«الهدهد» و«الأسبوع الساخر» وقد لعب رساموها دورا مهما في مقاومة الاستعمار الفرنسي. والأمر نفسه جرى على جارتها ليبيا، حيث راح الرسام محمد الزواوي يكرس رسومه للتهكم على الاستعمار الإيطالي وتحريض المواطنين ضده. ولم ينبع توظيف الكاريكاتير في المقاومة من فراغ، فهذا الفن لم يخلق للترفيه وتعزيز الذوق الجمالي، وتفريغ الطاقة الغضبية الكامنة في صدور الناس فقط بل إنه يساعدهم على الإلمام بالوقائع والأحداث الجارية وترتيب أولوياتهم السياسية والاجتماعية، ويشكل آراءهم عبر الاستخدام الواسع للرموز والشعارات والتصورات بطريقة مبسطة لا تستعصي على أحد، ويساهم في تشكيل الصور الذهنية. وفي الوقت نفسه يساعد الكاريكاتير على معرفة اتجاهات الناس وميولهم وانشغالاتهم، ويعطي مؤشرات دالة على التيارات السياسية والفكرية التي يموج بها المجتمع، والظواهر العامة الشهيرة التي تتوالى في فترات معينة. والكاريكاتير السياسي له وظيفة رئيسة تتمثل في تحريض المتلقي ضد أشكال التجاوز التي تمارس ضده، عبر آلية معقدة، تشترك فيها المكونات البنيوية للرسم الكاريكاتيري مجتمعة، بغية دفع المتلقي إلى اتخاذ سلوك إيجابي حيال ما يجري في الواقع المعيش. ويتم هذا التحريض عبر مستويين، الأول فكري وفيه يخاطب الكاريكاتير السياسي مجموعة القناعات والآراء والمعارف، والثاني انفعالي ويلجأ إلى مخاطبة الشعور، وشحذه باستمرار. ومن تفاعل هذين المستويين يولد مخزون تحريضي هائل لدى المتلقي، تكوّنه الإشارات والرموز اللغوية جنبا إلى جنب مع الرسم التصويري. ومثل هذا الأمر حدا بالكاتب الصحافي المصري عادل حمودة إلى أن يصف الكاريكاتير بأنه «فن مشاكس، شرس، تتحول خيوطه إلى أنياب، وتعليقاته إلى أظافر، وسخريته اللاذعة إلى طلقات من المطاط، تصيب الرؤوس الكبيرة بالذعر، لكنها لا تقتلهم، فقط تفزعهم، وتحطم حالات الوقار المرسومة على ملامحهم، وهذا بالتحديد ما يجعل القارئ يضحك، ويسعد، ويشفي غليله، ويؤمن بأن الكاريكاتير سلاح الضعيف في مواجهة القوي... سلاح المواطن في مواجهة الحكومة»، ونكمل في المقال المقبل.* كاتب وباحث مصري