مؤسسات المال والثقافة
العلاقة بين المثقف والمال في العالم العربي علاقة شائكة وطريق مليء بالألغام، المثقف هو الانسان الوحيد الذي لا يعيش من جهده الابداعي، رغم شقاء عمله، ولا يمكنه العيش اذا لم يجد وظيفة يعمل بها، وربما يقتطع منها لينفق على جهده الكتابي والبحثي، واذا كان المثقف كفرد لم يعُد يحتاج الى المال ليُبدع، فان الثقافة بالتأكيد بحاجة الى المال. وكنا طوال تلك السنوات المنصرمة ننادي أصحاب المال أن يقدموا شيئا للمشاريع الثقافية وليس للمثقف، والمقارنة بين الجهات الثقافية وغيرها تبدو مستعصية على الفهم، ففي الوقت الذي تستطيع فيه أي جهة دينية أو جمعية خيرية أن تجمع تبرعات أعضائها للإنفاق على نشاطها، وأن تطلب تمويلات لا حصر لها من الشخصيات التي تدعمها وتؤمن بنشاطها، ورغم مآرب هذه الجمعيات والهيئات الخيرية والتي ليست موضوعنا هنا، تقف الجهة الثقافية عاجزة عن استضافة شخصية واحدة لإلقاء محاضرة يتيمة في أمسية. وللعلم فان أغلب الضيوف لا يطلب مقابلا لهذه الأمسية ويعتبر منتهى الكرم هو الدعوة وحسن الضيافة، وأيضا لا يطلب من الجمهور أن يدفع ثمن حضوره. ففي أمسية ألقاها الروائي مايكل أونداتجي في جامعة كارلتون كلفت قسم اللغة الانكليزية 12000دولار فقط دفعت للضيف، اضافة إلى الاقامة والتنقل، وذلك لأن الحضور كان مجانيا، وربما كان المبلغ سيرتفع الى الضعف لو دفع الحضور ثمن التذكرة، ببساطة لأن جمهور الروائي حضر بالمئات وبعضه اكتفى بالمتابعة عبر الدائرة التلفزيونية بعد أن ضاق به المسرح.
الذين يعملون اليوم على اعادة دور الكويت الثقافي لا ينظرون الى الجانب المادي من المعادلة، ولا يعنيهم بريق أسمائهم وتلميعها، فهم معروفون من قبل النخبة والنخبة التي تعرفهم هي جمهور أمسياتهم، لكنهم يصرون على العمل رغم حجم الصعاب والعقبات التي تقف في طريقهم، واحدى أهم تلك العقبات هي العقبة المالية، فالعاملون في الجانب الثقافي ليسوا أثرياء دائما وحاجتهم الى الدعم المالي هي ليست رغبة اقتناء بل رغبة في نشر العمل الثقافي الذي يعيد إلى الكويت بهاءها السابق ويملأ مصباحها الذي يكاد ينطفئ ثقافيا بالزيت. الكويت قُبلة المثقف العربي سابقا وواحة الحرية التي جذبت مفكرين وشعراء وروائيين ورسّامين، أصبحت طاردة وكل فعالية ممكنة اليوم وراءها عناء التنظيم وقلة الامكانات، الكويت التي كان معرض كتابها بالأمس احتفالية سنوية، لا يعلم اليوم أغلب الناس متى بدأ ومتى انتهى، ذلك المعرض الذي كنا نتصفح فهرسه الضخم أياما قبل أن يبدأ، معرض الكتاب في الكويت والذي يتسابق أصحاب دور النشر الى المشاركة فيه أصبح خاليا من الدور المهمة والأقسى غياب الفعاليات الحقيقة عن أيامه، الكويت التي كانت ندواتها الفكرية يتناولها المفكرون بكتب كما حدث في ندوة الكويت الشهيرة والتي كتب عنها مهدي عامل أحد أهم كتبه، أصبحت تفرح اذا زارها مفكر عربي مهم مرة في السنة، أما زيارة مفكر غربي فتبدو حلما. في الكويت اليوم شباب يأخذون على عاتقهم اعادة هذا الدور البهي للكويت، وما يميزهم هو ارتباطهم بأسماء كبيرة في الشأن الثقافي، فمحاضرة محمد أركون التي أقامها مركز الحوار وندوة الدكتور سليمان العسكري المزمع عقدها في ملتقى الثلاثاء، وغيرهما مما هو قادم، ساهمت فيه المؤسسة المالية لتتحقق. أعرف أن بعض أصحاب المال يرفض أن تُنشر أسماؤه، لكني لا أرى ضيرا في ذلك، فربما شجع هذا الدعم الطيب آخرين طالما أن الهدف ثقافي بحت ولا يخفي وراء الأكمة شيئاً كما هي حال غيرهم من الجهات، فالمثقف والداعم له لا يطمحان الى أكثر من اعادة الوجه التنويري الجميل إلى الكويت ورد التحية لرواد التنوير أمثال أحمد العدواني وعبدالعزيز حسين والبصير.