تحرروا من الخوف
تسود سيكولوجية الخوف في مجتمعاتنا بشكل واضح وجلي، فقيمنا الاجتماعية والسياسية والدينية تربي الإنسان لدينا منذ الصغر على الخوف من المجهول، ومن التفكير والتغيير والقرار، وتتخذ من الطاعة العمياء والانصياع والخنوع سبيلا للاستسلام... ويقول العالم النفسي فرويد إن «تجاربنا الطفولية هي التي تصنع بذور الحب والكراهية والخوف والشجاعة والألم والمتعة»، وفي شرقنا البائس ينمو أطفالنا ويترعرعون على الخوف من السلطة السياسية والدينية والأمنية والعادات والتقاليد، ليتغلغل الخوف عن وعي أو غير وعي في كل حواسنا وجوارحنا، ويتجذر في عقولنا الباطنة، ليخلق فينا السلبية والتقليد الأعمى بعد أن تحيطنا مسلماتنا الموروثة بأوامرها ونواهيها من كل صوب وحدب، لتشل إرادتنا ويصبح فكرنا وسلوكنا عصيين على التغيير... نعم نطيع ونستسلم ونخضع ولكن حين يغيب أو «يُغيَّب» المراقب أو الشرطي أو المدرس أو الأهل ندوس على القوانين والقيم لننتهكها في وضح النهار. أحد أسباب التخلف الرئيسة هو هذا الخوف المرضي، وسبب هذا الخوف هو الجهل، وهما صنوان لا يفترقان، فالإنسان عدو ما يجهل... وسبب الجهل هو وأد الحريات، وقمع حرية التعبير والتفكير وحتى القراءة، والأمثلة ماثلة أمام أعيننا في كل لحظة ودقيقة... من تقييد لحرية الصحافة إلى فرض الرقابة التعسفية على معرض الكتاب، وترهيب الكتّاب والصحافيين والإعلاميين، وغيرها... وغيرها. وفي قتل الحرية يفقد المجتمع فعاليته الإبداعية والمسؤولية المجتمعية، وبالتالي يتجذر الاستبداد والفساد والتخلف، ولكن هل المنع أو الكبت أو عدم التطرق للمواضيع السياسية والدينية والاجتماعية وخطوطها الحمراء الوهمية سيمنع أي تفكير حر؟ أم سيفرض سلوكاً معيناً؟ أم سيعزز من «الأخلاق»؟ أعتقد عكس ذلك تماما، ذلك أنه كلما تجذرت ثقافة الخوف والجهل في المجتمع، كما هو حاصل، تأصّل مرض الازدواجية والنفاق والرياء والغموض واللامبالاة والعزلة وتشويش الفكر والعقل والضمير وتشويهها، فالخوف هو بالفعل سمة مدمرة ومخربة لكل قيم الحداثة والحرية وقيم حقوق الإنسان.
في الواقع، الأصوليون الفاشيون على مر الزمان يزرعون الخوف في نفوس الناس لأن فكرهم هزيل وهش، ولأنهم يعتقدون أن الحرية هي العدو اللدود الذي يهدد كيانهم، فيسعون بكل ما أوتوا من قوة لنفي الآخر وإلغائه من الوجود من خلال سياسة الترويع والترهيب... وهو دليل ساطع على فشلهم في معايشة وتحمل الآخر المختلف عنهم، لأنه لا يخاف التفكير، فهو أقوى حضارياً وفكرياً وإبداعياً وإنتاجياً، فالعالم المتحرر من الخوف هو المبدع المنتج المتحضر العقلاني، وها نحن نستخدم حضارته وتقنيته في تكريس الخوف والإرهاب ومزيد من التخلف والجهل. هذا الزمن يفرض علينا التحرر، والمسارعة في الخروج من دائرة الخوف، وإلا فسوف نبقى خارج التاريخ... نجتر الماضي، ونحلم كالأطفال، أو بالأحرى كالعصافير أو ربما كالمجانين والمعتوهين... وقد لا نكتفي بأن نكون خارج التاريخ بل نصبح خارج الجغرافيا، وخارج أمم الأرض، فالذي يسترنا الآن ويغطي عيوبنا هو هذا النفط العظيم... ولكن ماذا بعده؟لقد تجذر الخوف في أوروبا منذ قرون... وتحكم الكهنة ورجال اللاهوت بالبشر وتفكيرهم، واستخدموه لردع من يعارضهم... عن طريق التكفير والتشهير، ومن لا يخافهم يعذب ويقطع رزقه أو حتى يعدم، لكنهم انتفضوا على الخوف والفزع وأشعلوا شرارة التنوير بشجاعة وجرأة وإصرار، فاستخدموا العقل وطرحوا فكر الوصاية والخنوع.قام الشجعان أمثال فولتير وجان جاك روسو وكانط وغيرهم كثيرون بالمهمة الإنسانية العظيمة التي شملت كل أوروبا، وأثرت في العالم كله... فلنقرأ التاريخ مرة أخرى لنعي دروسه ونعتبر... ولنتحرر من الخوف لكيلا تنتحر العقول أو تُغتال أو تُسجَن في ظلمة الجهل، وبقتل العقول تُنحر الحرية والإنسانية والحضارة... فما أجمل العالم حين نتخلص من الفزع والخوف!!