قرأت قبل أيام في ثقافية هذه الجريدة، تقريراً عن مهرجان للشعر يُعقد في القاهرة الربيع المقبل، وتغطية سريعة لردود الأفعال حوله: مطالبة بتنحّي مسؤولين في اللجنة، احتجاج على إغفال قصدي لقصيدة النثر، أو دعوتها لعقد مؤتمر خاص بها، فضح الدعوات النفعية لأسماء مكررة، فضح تكريس نمط واحد من القصيدة العربية، باسم من سيُسمى المهرجان: باسم شاعر تفعيلة، شاعر نثر أم شاعر عامية؟ ولمَ يُدعى الشاعر الإعلامي لا الشاعر الجيد؟ وأين هي لجنة «الشعراء الشباب» في وجه لجنة «الشعراء الكبار الكلاسيكيين»؟ ولمَ لمْ يتم التركيز على الشعر اللبناني لصموده ومقاومته اليوم؟

Ad

لا تحتاج أكثر من تغييرات بقلم الرصاص هنا وهناك لتُصبح التغطية صالحة لمؤتمر قمة عربية، أو مؤتمر وزراء داخلية.

أنا لا أُنكر على اللجنة المشرفة ولا على منتقديها هذا الاندفاع الخلافي الحاد، فهذا ديدن مهرجانات الشعر العربية منذ الستينيات، ولا أعجبُ لمَ لمْ يفلتْ شاعرٌ من ساحة المعترك ليلقي ضوءاً على ما يراه مُعتركاً سياسياً يأخذ قناع الشعر، لأني أعرفُ بأن هناك شعراء على معرفة عميقة بذلك، ولا يسعون إلى الإفلات من ساحة المعترك، لأنهم لم يدخلوها أصلاً، ولا يرغبون في إلقاء الضوء عليها، حرصاً على الضوء الذي قد لا يكفي لإنارة أركان أرواحهم نصف المضاءة.

ديدن المهرجانات هذا بدأ مع بدء نظام الانقلابات العسكرية في الخمسينيات، نضج في الستينيات تحت رعاية مؤسسات الدولة، ومؤسسات الأحزاب الوطنية والتقدمية.

وأصبح المثقفون صلة الوصل المحكمة بين الطرفين: طرف رعاية الدولة الحكيمة، وطرف الأحزاب الممثلة للجماهير. وكلا اسمي الطرفين صياغتان سياسيتان إيهاميتان. فلا الدولةُ دولة بالمفهوم القانوني، ولا الجماهير هم الناس. واستطاعت هذه المعادلة الإيهامية أن تخلق بدورها مثقفاً إيهامياً، وشاعراً إيهامياً، وصار المهرجان الذي يتم تحت رعاية الطرفين صمام أمان دائم، للحفاظ على دوام هذه المعادلة.

اختلق الانقلاب العسكري مفهوماً للدولة (اشتراكياً أو تقدمياً) بقوة السلاح، وعززه المثقف المُنتمي باختلاق مفهوم للجماهير بقوة الكلمة المسؤولة، وتواصل الأمرُ مع هذا المثقف، عبرَ الأجيال، حتى في مراحل تخليه عن انتمائه الحزبي، لأنه سرعان ما عوضه بانتماءات ثقافية، أدبية، شعرية تنطوي على الحماس العقائدي ذاته، فهو شاعر قصيدة نثر (مثلاً) بالمقدار ذاته الذي كان فيه في جيلٍ أسبق شاعراً شيوعياً، بعثياً، قومياً أو إسلامياً، له أنصار لدعوته، وله أعداء، وهو لا يحرص على سلامة الانتماء وحدها، بل يحرصُ على تسجيل حضور دائم في كل مناسبة حتى لو لم تكن شعرية خالصة (لا أعني بهذا الحضور حضوراً فردياً، بل حضورٌ تمثيليٌّ للتكتل الذي وراءه!)، ويحرصُ على تماسك هذا التكتل في التمييز الدقيق بين الصديق والعدو.

كانت مؤتمرات اتحاد الأدباء أو الكتاب العرب، ومازالت، عينةً مثاليةً لنظام التمثيل هذا، على أن التمثيل لم يكن، بحكم طبيعة مؤتمرات الاتحاد الرسمية، تمثيلاً عقائدياً، بل تمثيلٌ قطريٌّ، بالتعبير القومي، من كلّ نظام عربي ممثلون له من الكتّاب والشعراء، وإذا لم يتوافر شاعرٌ فيجب أنْ يُختَلَق.

مؤتمرات اتحاد الكتّاب العرب صيغة أدبية لمؤتمرات الجامعة العربية، وقد تكسب شرعية موتها من ذلك. أما مهرجان الشعر الذي يبدو متأملاً في التلقي والتجريب، وطليقاً في معانقة المستحيل في الظاهر، فالمفارقةُ فيه مُحرجة، إنْ لمْ أقلْ جارحة ومحزنة، فقد يكون الشاعرُ المسؤول عن انتخاب الشعراء المشاركين لا يستطيع أن يقرأ كتابات نسبة كبرى منهم، ولكن معيارَ الانتخاب لممثلي شعر الأقطار العربية غير معيار انتخاب الشاعر الذي يستحق هذا الاسم!!

أما الشاعر الذي لم يدخل ساحة المُعترك، والذي يحرص على إضاءةِ مُعترَكه الداخلي، فسأقول له عن يقين بأن الشاعر الذي يُشبهه إنما يحتاج إلى قارئ، لا إلى جمهور، قارئ يقرؤه كمن يتحاور معه، لا إلى جمهور يتأمل فمه الصارخَ بإشفاق.