جيوشنا... وجيشهم

نشر في 28-03-2009 | 00:00
آخر تحديث 28-03-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز إذا حاولت المقارنة بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي، فلن تجد عاملاً فارقاً أكثر وضوحاً ودلالة من أن جيوشنا تخسر عادة، وأن جيشهم ينتصر في الغالب، ومع ذلك فثمة العديد من نقاط التمايز أيضاً؛ ومنها طبيعة التسلح، ونمط الخدمة، والهيكلية الهيراركية، والعقيدة العسكرية، ودرجة الاعتماد على الخارج، وغيرها من العناصر.

لكن العدوان الإسرائيلي الهمجي الأخير على غزة أظهر فارقاً مميزاً جديداً لم يكن منتبهاً إليه بالقدر الكافي في الأدبيات التي حاولت تحليل بناء جيوش المنطقة وأساليب عملها وتفاعلها مع دولها ومجتمعاتها؛ وهو فارق يتلخص في أن تلك الجيوش التي دأبت على الخسارة تتحلى بالكثير من القدسية التي تخرجها من أي دائرة للنقد أو مراجعة الأداء، وأن ذلك الجيش الذي اعتاد الانتصار وإحراز النتائج الجيدة لديه القابلية لتلقي الاتهام والتوبيخ والخضوع لتقصي الأداء والاعتراف بالخطأ وطلب الصفح علناً.

لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟ لماذا انتصروا ولماذا انهزمنا؟ سؤالان طرحا كثيراً، وعلى المستويات كافة، ولا شك أن الإجابات عنهما قُدمت بالشكل الوافي، لكن مع هذا فإن أي تغيير لم يطرأ.

يعرف معظم الإعلاميين العرب أن ثمة خطوطاً حمراء لا يمكن المس بها أثناء ممارستهم لمهنتهم، وإلا فإن العقاب سيكون مريراً، وهو عقاب قد يتخطى الإعلامي نفسه، فيطيح بوسيلته الإعلامية أو يغلقها أو يوقفها أو يغرمها، كما قد يطول رؤساءه، وربما أسرته وأصدقاءه وأهل قريته.

وتتغير الخطوط الحمراء في كل مجتمع من المجتمعات؛ ففي اليمن مثلا يمكنك أن تنتقد رئيس الجمهورية، وأن تفرد صفحات لمنافسيه في الانتخابات، لكن عليك أن تتفادى انتقاد القبيلة، وفي سورية يمكنك أن تمس خطوطاً خاصة بالدين؛ إذ تمنحك الأجواء العلمانية السائدة في الدولة والليبرالية الاجتماعية والفكرية الفرصة لمقاربات مثيرة للجدل ترتاد مناطق يصبح المس بها جريمة كبرى شنعاء في دولة مثل السعودية.

ولذلك فإن الدول العربية جميعها تتفق في أن ثمة خطوطاً حمراء يجب التحسب عند التعاطي معها إعلامياً، كما تتفق في أن ثمة أثماناً متفاوتة يدفعها الإعلامي والإعلام إذا مُس أحد هذه الخطوط، لكن الخطوط نفسها غير متطابقة؛ فقد تكون القبيلة في دولة ما، والدين في أخرى، والرئيس أو الأسرة الحاكمة في ثالثة، والقضاء في رابعة وهكذا، باستثناء خط أحمر وحيد يتكرر في تلك الدول كلها... الجيش.

فعلى الرغم من الأداء الهزيل لمعظم الجيوش العربية، والأموال الضخمة التي تنفق عليها دون محاسبة ومراجعة شفافة، فإن الحديث عنها في أوقات السلم أو الحرب بغير التمجيد والإشادة والمديح المفرط يعد خيانة وتفريطاً وطنياً يستحق أشد العقاب.

في 22 من شهر مارس الجاري، نشر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي مقالاً في صحيفة «هآارتس» قال فيه إن جيش الدولة العبرية «فقد أخلاقه وقيمه في ضوء شهادات الضباط والجنود عن التجاوزات التي حصلت في الحرب على غزة».

قام ليفي بتحليل شهادات أدلى بها جنود وضباط عن تجاوزات محددة وقعت خلال العدوان على غزة في ديسمبر 2008 و يناير 2009، وهو العدوان الذي أسفر عن مقتل نحو 1400 فلسطيني وجرح أكثر من خمسة آلاف، وتهديم البنية الأساسية ومئات البيوت والمباني في قطاع غزة، خلال معركة شرسة امتدت 22 يوماً.

واتهم الكاتب الجيش بتلطيخ سمعته وسمعة إسرائيل في العالم وارتكاب جرائم تستحق العقاب، وهو الأمر الذي استدعى قيام وزير الدفاع إيهود باراك بالرد قائلاً: «إن جيش إسرائيل أكثر جيوش العالم أخلاقية»، كما دافع رئيس الأركان وضباط كبار آخرون بأن الشهادات التي أدلى بها الجنود والضباط حُرفت أو فُهمت على نحو خطأ.

الأهم من ذلك أن المقال الذي كتبه ليفي تلقى عشرات التعليقات على موقع «هآارتس» الإلكتروني، وتبادل القراء العديد من وجهات النظر بصدده، وقد قرأت أغلبها محاولاً أن أجد بينها تعليقاً واحداً يخون الكاتب أو يتهمه بتثبيط عزيمة الجيش فلم أجد.

تراوحت التعليقات بين اتجاهين رئيسين؛ أولهما يوافق ليفي على ما ذهب إليه، ويطالب بمعاقبة الجنود والضباط الذين أطلقوا النيران بشكل غير مبرر، أو هدموا منازل ومبان دون أوامر وذرائع واضحة، أو استخدموا فلسطينيين كدروع بشرية، أو قتلوا أطفالاً ومدنيين ونساء بدم بارد، وقد اعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن الحساب الشديد لمرتكبي هذه الجرائم من شأنه أن «يعيد إلى الجيش صورته الأخلاقية»، وأن يساعد على تعزيز صورة إسرائيل التي لطختها هذه الحرب.

أما أصحاب الاتجاه الثاني، فقد انتقدوا ما ذهب إليه الكاتب، دون أن يظهروا استهدافاً شخصياً له، كما لم يتهموه بالاتهامات البشعة كـ«الاستسلام» و«الخيانة» و«العمالة»، لكنهم تساءلوا عن مدى أخلاقية «حماس» و«حزب الله»، وتذرعوا بأن «كل شيء متاح في الحرب»، وضربوا أمثلة بـ«تفجير الباصات ومحال البيتزا التي يرتادها مدنيون آمنون» على حد قولهم.

الأمر الأهم من ذلك أن الجيش الإسرائيلي الذي دأب على تشكيل لجنة لتقصي الأداء ومعرفة أسباب التراجع عقب كل حرب يُهزم فيها أو يحقق أداء أقل من المتوقع، يتعرض لتشكيك من أوساط في الحكومة والمعارضة والإعلام بشكل شبه مستمر، خصوصاً على خلفية ما اُعتبر إخفاقاً في حربي لبنان وغزة الأخيرتين. على أي حال ظهر أن الجيش الإسرائيلي مؤسسة مثل أي مؤسسة أو كيان آخر في الدولة؛ وأنه من الممكن أن يتم انتقاده علناً أو توجيه الاتهامات إلى قادته، كما يمكن أن يعترف جنوده وضباطه بأنهم ارتكبوا أخطاء أثناء «مقارعة الأعداء»، وكلها أمور لا شك ضرورية لكل جيش ما ينتقل من حال الخمول وتسجيل الخسائر إلى حال المراجعة النقدية وإحراز الانتصارات المتتالية.

والأمل أن تتحلى جيوشنا العربية بالمزايا ذاتها: القدرة على التنكيل بالأعداء، وتلقي الاتهامات والانتقادات، ومراجعة الأداء، والاعتراف بالخطأ، وعندها ستكون معظم مشكلاتنا قد حُلت.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top