عشرات من الشاشات التي تطل على عيون المشاهدين العرب، وتسكب في آذانهم العقيدة والفريضة والتعاليم والطقوس والقيم الإسلامية، عبر برامج عديدة، بعضها تقدمه قنوات دينية صرفة، وبعضها تجود به القنوات العامة والمنوعة، التي لا يمكنها أن تهمل هذا الصنف من البرامج الذي تنجذب إليه جماهير غفيرة من المحيط إلى الخليج.
والقاسم المشترك بين الأغلبية الكاسحة من هذه البرامج يدور حول أمرين أساسيين: الأول هو استخدام التلفزيون بوصفه مجرد إذاعة مسموعة، حيث يطل على الناس من الشاشة رجل واحد، يتحدث إليهم بصوت جهير، أو يخطب فيهم بلغة حماسية، أو يتلقى أسئلتهم وملخص مشكلاتهم ثم يجيب عنها حسب رؤيته وتقديره ووفق ما تسعفه به الذاكرة من أسانيد «شرعية»، ويطلق أحكامه من طرف واحد، وليس أمام السائل والمستفسر الذي يرى شفتي الشيخ ويسمع الحروف الخارجية منهما سوى أن يهز رأسه، أو يصمت، أو ينصرف إلى شيخ آخر، في بحث نهم عن الفتاوى. والثاني هو اعتماد من يقدمون هذه البرامج على إعادة طرح ما هو موجود على صفحات الكتب القديمة، بحيث يتحول الشيخ أو الواعظ إلى مجرد ببغاء يردد ما قرأ وحفظ، فتأتي لغته قديمة مهجورة، وأفكاره وتصوراته بعيدة عن مجريات واقع يتجدد باستمرار.ورغم رسوخ أقدام بعض القنوات الإسلامية مثل «الناس» و«المجد» و«الرحمة» و«الرسالة»، ومع ظهور برامج دينية ثابتة في فضائيات كثيرة، فإن الأغلب الأعم يفضل التقليد على التجديد، وإرضاء العوام على إيقاظهم، والنيل من المخالفين في الرأي وتجريحهم بدلا من الدخول في حوار بناء معهم. ومن ثم فإن الطاقة الإعلامية الإسلامية الجبارة التي تضخها الشاشات الزرقاء تبدو وكأنها حرث في ماء، لا تربي نفسا، ولا تبني عقلا، ولا تشبع ذائقة، لينحصر دورها الأساسي في جذب المشاهدين واصطيادهم، ليتحولوا إلى زبائن أو مستهلكين للبضائع التي ينتجها شيوخ «مطوعون»، ينظر كثير منهم إلى الأمر برمته على أنه تجارة بحتة.والكثير مما يقال في هذه البرامج يغذي نزعة الناس إلى البحث عن خلاص فردي، وبدلا من أن يهذب شهواتهم وغرائزهم فإنه يطلقها في اتجاه النهم إلى استهلاك كل شيء، بدءا من السلع الضرورية والكمالية وانتهاء بـ«الجنس الحلال»، تحت تبريرات تلوي عنق النصوص، وتوظفها في غير ما نزلت من أجله، ولا تراها في سياق الظروف القاسية التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية، وذلك من قبيل: «وأما بنعمة ربك فحدث» أو «إن الله يحب أن يرى آثار نعمته على عباده» و«لا تنس نصيبك من الدنيا»... إلخ. وينسى هؤلاء أن الرسول الكريم كان يقول «أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة» ويقضي يومه على التمر واللبن.وما يزيد الطين بلة أن بعض هؤلاء يتكسبون من الوعظ والفتوى والرأي الديني، ناهيك عن قراءة القرآن والدعاء، وليس هناك ما يمنع أن يتقوت الإنسان من عمل ذهني، فهذا طبيعي ومشروع بل ضروري حتى يتفرغ بعضنا للتعمق في دراسة علوم الدين ويعلمها للناس، لكن التوسع في الكسب إلى درجة تحول الأمر برمته إلى تجارة يضر ضررا بالغا بمضمون رسالة الدين، التي تسعى إلى الامتلاء الروحي وتحقق السمو الأخلاقي وتقيم اعوجاج الدنيا وتحارب شرور النفس وتهذب شهواتها، فبعض هؤلاء الشيوخ يتحولون إلى شركاء في تلك القنوات، وبعضهم يوقع معها عقودا بمرتبات ضخمة، وبعضهم يأخذ نصيبا أو نسبة من تكلفة كل اتصال هاتفي يقوم به أحد الناس سائلا أو مستفسرا عن قضية دينية أو حكم شرعي، ووصل الأمر إلى أن يحول بعضهم صوته وهو يقرأ القرآن أو يؤذن أو يدعو أو يعظ إلى «رنة» للهواتف الجوالة، والأقسى والأشد مرارة هو أن بعضهم يتكفل بأن يدعو الله لك مقابل اتصالك برقم معين، ويحرمك أنت شخصيا من الدعاء والتضرع إلى الله وهو نصف العبادة، يكفي الإنسان فيها أن يخشع ويحسن الظن بخالقه سبحانه وتعالى، ويلجأ إليه ويقول له ما يريده، بأي طريقة وأي لغة وأي لهجة، أو حتى وهو صامت، لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. إن الأغلبية الكاسحة من البرامج الإسلامية على الشاشات الزرقاء تهمل القضايا الأساسية والملحة التي يجب على الدين أن يتصدى لها، ويخوض غمارها، ويجيب عن أسئلتها كافة، ويقدم في هذا ردودا شافية كافية، لا تغادر سقما، تحقق في النهاية مصالح الناس وأشواقهم إلى الكفاية والحرية والعدل. *كاتب وباحث مصري
مقالات
الدين على الشاشات الزرقاء
18-11-2008