تجارب السلطة العميقة وبؤسها

نشر في 15-07-2008
آخر تحديث 15-07-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ بين ديمقراطية الولايات المتحدة، وما تريده للآخرين من «ديمقراطية»، مسافة شاسعة جداً، لابد لقطعها من نفي واحدة منهما؛ فأي ديمقراطية هي المؤهلة للنفي؟ وأيهما المؤهلة للبقاء، ولو على سبيل التعاطي معها كإرث تاريخي لا يخلو من شكلانية النقض أو النفي مرة أخرى؟

وبين «ديمقراطيّة» زيمبابوي، وما يريده روبرت موغابي من تسلط استبدادي حتى الرمق الأخير، بحار من الدم والدموع ومعاناة الشعب الذي ذاق ويلات ومرارات الاستعمار الاستيطاني في روديسيا القديمة من قبل، ومسلكيات التمييز والقمع السلطوي في زيمبابوي المعاصرة من بعد. أي الآن؛ حين تحتل السلطة الغاشمة؛ كل فضاء ممكن أن يتنفس فيه المجتمع والفرد، في بلد صار للحكم الفردي فيه إرث سلطوي لا يبارى، رغم الشعارات اللفظية، ولفظية الشعارات التي ترهن شعباً، أو أمة، أو دولة؛ أو كل هذه المفاهيم دفعة واحدة لعاديات الزمن؛ زمن السّلطة الذي لا ينتهي، بل هو يجدد دمه وأشخاصه كلما ران صمت القبور على المستبد غير العادل.

موغابي... وفي زيمبابوي تحديداً، ينسج أو يكرر إرثا سلطويا استبداديا دمويا، لم ينشأ في بلاد ما بين النهرين أو في مصر الفرعونية، أو حيث أصبح الحكم الأموي مُلكاً عضوضاً... إلخ. بل هو يغب غباً من إرث فردي وعائلي طويل، مارست السلطة خلاله «لعبتها المفضلة»: الحكم باسم الله أو باسم الدين، والحاكم هو الإله أو شبيهه، أو الناطق باسمه في زماننا. هو «كليمه» أو «حليمه» أو يده الباطشة؛ أي منفذ إرادته، أو المستجيب للرؤى الإلهية، العامل على تطبيقها كما وردت، أو قد ترد في «حلم إلهي»، هو في الحقيقة ليس أكثر من كابوس فردي لشخص تؤرقه السلطة، وتدفع به إلى ممارسة كل ما من شأنها أن تخلّده

-على ما يعتقد- أو لتخليد اسم الإله من دون أن يحتاج الله أو أي إله من الآلهة القديمة إلى مَن يخلده بالطريقة التي أرست وأسست لاستبدادية سلطوية، أمست مُلكاً عضوضاً، وماهت بينها وبين سلطة الإله، وأضحت إرثا عائلياً أو نخبوياً أو فردياً، إحدى سماتها الأبرز تجديد عقل التوريث، ووراثة عقل النقل، وإحاطته بمرايا التبجيل وسور وآيات الهيمنة السلطوية الرائدة في مجالاتها، وفي كل مجال يمكنها أن تطبق فيه رؤاها الإلهية الخالدة!

وفي تركيا لا يبدو أن الديمقراطية تروق لعسكر النظام، إلا حين تكون نتائجها تعمل في مصلحتهم، أو مصالح من اصطلح على تسميتها قوى «الدولة العميقة»، أي القوى التي تعتبر السلطة إرثاً أبدياً مطلقاً لها، أي هي صاحبته؛ وذلك وفق الصياغة الأتاتوركية للدولة، كونها -أي السلطة- هي الدولة، وأن المجتمع مجرد ملحق من ملحقاتها التي لا يحق لها الاعتراض أو رفض ما تقره تلك القوى «العميقة»، حتى ولو أقر المجتمع درباً أو سلوكاً مغايراً، فذلك خاضع للنقض: نقض الانقلابات الدورية في تركيا الحديثة، وحل الأحزاب وتركيبها أو إعادة تركيب بعضها بما يتلاءم و«عمق» الأهداف القومية، وفق منظور ورؤى قوى (السلطة العميقة) حتى لو تعارضت أو تناقضت مع منظور ورؤى قوى أساسية في المجتمع، أو حتى مع المجتمع نفسه. وأيضا حتى لو تعارضت أو تناقضت مع الديمقراطية كعملية تقنية أو حقوقية، بغض النظر عن آلياتها أو قوانينها الناظمة.

المشكلة في تركيا أن المحكمة الدستورية ذاتها قد تنتهك الدستور، من دون أن يجد القضاء مَن يناصره دفاعاً عن دستورية أو لا دستورية القوانين، ومن دون أن يجد الدستور مَن يدافع عنه في مواجهة تغوّل «السلطة العميقة»، لا سيما في وجه مجتمع اعتاد الصمت، ولعب أدواراً ملحقة وتابعة لقسم خفي من تلك السلطة. لكن المشكلة الأخطر في تركيا الحديثة تلك «الانقلابات القانونية» أو القضائية التي أمست تجيدها المؤسسة العسكرية، ومن خلفها ما تشيعه قيم «السلطة العميقة الخفية» التي لم تعد تتحرج من الظهور علناً في مواجهة المجتمع و«ديمقراطيته» وخياراته، بل ومحاصرة قوى المجتمع المدني لمنعها من الدفاع؛ ليس عن الديمقراطية، بل وعن الأمة... ودولتها التي تحولت إلى «سلطة عميقة» أمست تدخلاتها وانقلاباتها السياسية والقضائية تمسّ الأمة والدولة على حد سواء، لجهة تمتين و«فولذة» وقولبة جدران «الحماية» و«الوصاية» وفرضها فرضاً، وبالقوة الغاشمة ضد مجتمع الأمة، ودولتها تجاهلاً أو احتقاراً.

ما جرى وما قد يجري في تركيا الآن أو بعد قليل، هو تنفيذ المزيد من الانقلابات الدستورية، بما يعنيه ذلك من عودة معلنة، ومُرة جديدة؛ إلى قتل السياسة ورهن المجتمع... كل المجتمع وقواه المدنية لوصاية قضائية من نوع جديد، يحل بموجبها «الانقلاب القضائي» محل الانقلاب العسكري، كشكل متجدد من أشكال معاداة الديمقراطية والاجتماع السياسي والدولة المدنية الحديثة، بل وإلغاء الأمة؛ لكونها مناط الاجتماع الوطني والوحدة الوطنية البانية للدولة في حداثتها الراهنة.

رغم ذلك كله، فإن علاج ما أرسته وترسيه «الديمقراطية المغدورة» في بلاد الناس، لا يمكن أن يكون بمزيد من جرعات الاستبداد المقيم، أو بالمزيد من تسلط السلطويات، أو توافق النخب على توفيقية وتلفيقية خيارات لا ديمقراطية على ما هو حال لبنان. بل إن العلاج لا يكون إلا بالمزيد من الديمقراطية والمزيد من الشفافية والوضوح في آلياتها، واعتماد آليات إصلاح بديلة لقوانين انتخابية جائرة، جرَّت الويلات على مجتمعات بأكملها، على ما فعلت «ديمقراطية المحاصصة» الأميركية في العراق، وعلى ما فعلت قوانين الانتخاب «القوائمية» غير النسبية في فلسطين، وفي غيرها من بلدان؛ أمست العملية الدّيمقراطية فيها لعنة انقسامية تهدد وحداتها الوطنية وسلمها الأهلي.

* كاتب فلسطيني

back to top