الفهم السليم للحكم الرشيد

نشر في 29-06-2008
آخر تحديث 29-06-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تعود خبراء الاقتصاد على مطالبة الحكومات بإصلاح سياساتها. والآن يطالبونها بإصلاح مؤسساتها. وتغطي أجندتهم الإصلاحية الجديدة قائمة طويلة من الأهداف، بما في ذلك مكافحة الفساد، وتحسين حكم القانون، وتصعيد مسؤولية وكفاءة المؤسسات العامة، وتعزيز صوت المواطنين. بيد أن التغيير الحقيقي المستدام لن يتسنى إلا بتحويل «قواعد اللعبة»- أو الطريقة التي تتبناها الحكومات في تشغيل القطاع الخاص والتعامل معه.

بطبيعة الحال، يشكل الحكم الصالح أهمية كبرى فيما يتصل بتوفير قدر أعظم من الوضوح للمواطنين، وطمأنة المستثمرين إلى قدرتهم على تأمين حصولهم على العائدات في مقابل ما يبذلونه من جهد. فضلاً عن ذلك، فإن التأكيد على الحكم الرشيد يشتمل على فضيلة واضحة تتمثل في المساعدة في تحويل التركيز في عملية الإصلاح نحو أهداف مرغوبة. والتوصيات التقليدية مثل التجارة الحرة، وأسعار الصرف التنافسية، والسياسة المالية السليمة، لا تستحق الاهتمام إلا إلى الدرجة التي تتحقق بها أهداف أخرى مرغوبة، مثل النمو الاقتصادي الأسرع، وتقليص الفقر، وتقليص فجوة التفاوت.

وفي المقابل يتضح لنا الأهمية الراسخة لحكم القانون، والشفافية، وصوت الناس، وتحمل المسؤولية، والحكم الفعّال. بل نستطيع حتى أن نقول إن الحكم الرشيد يشكل في حد ذاته عنصراً من عناصر التنمية.

ولكن مما يدعو للأسف أن القدر الأعظم من المناقشات المحيطة بقضية إصلاح الحكم تفشل في التمييز بين الحكم باعتباره غاية والحكم باعتباره وسيلة. والنتيجة فكر مشوش وإستراتيجيات غير ملائمة للإصلاح.

قد يكون لخبراء الاقتصاد ووكالات العون والإغاثة فائدة أعظم إذا ما حولوا انتباههم نحو ما قد نطلق عليه «الحكم النوعي المصغر». وهذا يتطلب التحرك بعيداً عن أجندة الحكم العريضة والتركيز على إصلاح مؤسسات معينة من أجل استهداف القيود المعوقة للنمو.

تعاني الدول الفقيرة عدداً هائلاً من معوقات النمو، والإصلاحات الفعّالة لابد أن تتعامل مع أشدّ هذه المعوقات قوة. وقد يشكل الحكم الرديء عموماً القيد المعوق الرئيسي في زيمبابوي والقليل من الدول الأخرى، إلا أنه لم يكن كذلك في الصين، أو فيتنام، أو كمبوديا- وهي الدول التي تسجل نمواً سريعاً على الرغم من الحكم الرديء- ومن المؤكد أنه لم يكن كذلك في إثيوبيا، أو جنوب أفريقيا، أو السلفادور، أو المكسيك، أو البرازيل.

ونستطيع أن نقول كقاعدة عامة إن إصلاح الحكم على نطاق واسع ليس ضرورياً وليس كافياً لتحقيق النمو. وهو لا يشكل ضرورة لأن ما يحدث في الممارسة الفعلية يتلخص في إزالة القيود المعوقة المتوالية، سواء كانت تشكل حافزاً لزيادة العرض في الزراعة، أو كانت تشكل عنق زجاجة في مجال إصلاح البنية الأساسية، أو كانت في هيئة تكاليف ائتمانية باهظة. وهي لا تكفي لأن دعم ثمار إصلاح الحكم من دون أن يصاحب ذلك من النمو أمر صعب. ورغم أن أهمية إصلاح الحكم على نطاق واسع لا تقل عن أهمية حكم القانون وما شابه ذلك من الإصلاحات على الأمد البعيد وبالنسبة للتنمية عموماً، فإنها نادراً ما تستحق الأولوية باعتبارها جزءاً من إستراتيجية النمو.

وتركز الإصلاحات النوعية الصغيرة بدلاً من ذلك على تلك الترتيبات المؤسسية القادرة على تخفيف القيود المفروضة على النمو على أفضل نحو ممكن. ولنفترض على سبيل المثال أننا ننظر إلى عدم استقرار الاقتصاد الشامل باعتباره القيد المعوق لاقتصاد دولة ما. في عصر سابق كان أي مستشار اقتصادي ليوصي بتبني سياسات مالية ونقدية محددة تهدف إلى استرداد توازن الاقتصاد الشامل- مثل تخفيض الإنفاق المالي أو وضع سقف للائتمان.

أما اليوم فقد يكمل المستشار الاقتصادي هذه التوصيات بتوصيات أخرى ذات طبيعة مؤسسية وأكثر ارتباطاً بالحكم. وعلى هذا فقد يدعو المستشار الاقتصادي إلى استقلال البنك المركزي من أجل تقليص حجم التدخلات السياسية، وتغيير هيكل إدارة السياسة المالية- وضع القواعد المالية، على سبيل المثال، أو السماح فقط بالتصويت التشريعي على اقتراحات رفع أو خفض الميزانية.

إن سياسة الاقتصاد الشامل تشكل منطقة اجتهد خبراء الاقتصاد داخلها كثيراً في التفكير بشأن الشروط المؤسسية اللازمة. ويصدق القول نفسه على مناطق قليلة أخرى، مثل السياسة التعليمية وتنظيم الاتصالات.

ولكن في مناطق أخرى، مثل التجارة، وتشغيل العمالة، أو السياسات الصناعية، سوف نجد أن الفكر السائد إما ساذج وإما لا وجود له. وهذا أمر مؤسف، لأن فهم خبراء الاقتصاد للقضايا الجوهرية، وهوسهم المهني بالحوافز، وانتباههم إلى العواقب غير المتوقعة، كل ذلك يمنحهم ميزة طبيعية في تصميم الترتيبات المؤسسية اللازمة لتوسيع الأهداف وتقليص الانحرافات السلوكية في الوقت نفسه.

إن تصميم الترتيبات المؤسسية اللائقة يتطلب أيضاً المعرفة المحلية والإبداع. فما يصلح في بيئة ما قد لا ينجح بالضرورة في بيئة أخرى.

فبينما ينجح تحرير الاستيراد فيما يتصل بالتكامل مع الاقتصاد العالمي حين لا تكون مصالح المنافسة الاستيرادية قوية وحين لا يكون من المرجح أن يتم رفع قيمة العملة على نحو مبالغ فيه، قد تحرز إعانات التصدير أو المناطق الاقتصادية الخاصة نجاحاً أكبر في ظل ظروف أخرى. وعلى نحو مماثل، قد تكون فكرة استقلال البنك المركزي عظيمة حين يشكل عدم الاستقرار النقدي قيداً معوقاً، إلا أن الفكرة نفسها قد تؤدي إلى مشاكل خطيرة حين يتلخص التحدي الحقيقي في المنافسة الفقيرة.

ومن المؤسف أن نمط الإصلاح المؤسسي الذي يروج له البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وغير ذلك من المؤسسات الدولية، ينحاز نحو نموذج «أفضل الممارسات»، والذي يفترض إمكانية تحديد مجموعة من الترتيبات المؤسسية الشاملة المناسبة، فضلاً عن إمكانية تقريب وجهات النظر فيما يتصل بهذه الترتيبات. بيد أن المؤسسات التي تتبنى نموذج أفضل الممارسات، لا وجود لها في الواقع، ولا يمكنها أن تضع التعقيدات المحلية في حسبانها. وبقدر ما تؤدي مثل هذه المؤسسات إلى تضييق قائمة الخيارات المؤسسية المتاحة بدلاً من توسيعها، فإنها لا تخدم قضية الحكم الرشيد.

إن الحكم الرشيد خير قائم بذاته. وقد يكون فيه الخير أيضاً بالنسبة للنمو حين يستهدف القيود المعوقة. إلا أن التركيز أكثر مما ينبغي على القضايا العريضة، مثل حكم القانون وتحمل المسؤولية القانونية، قد يؤدي بصناع القرار في النهاية إلى مبارزة طواحين الهواء بينما يتجاهلون تحديات الحكم المحددة والأقرب ارتباطاً بقضايا النمو الاقتصادي.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top