صراع الصحراء
![صالح بشير](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1488283965408028300/1488283965000/1280x960.jpg)
بعض أنصبة الغلبة تلك كان قد تأسس على ما هو معلوم تقليدي، ليس بحال من الأحوال من السمات الحصرية لذلك الحيّز «الساحلي» بل نجد نظيراً له في كل حيز مماثل له أو مشابه، من علاقاتِ صدام، اضطلعت بدور تكويني في اجتراح الواقع السياسي - الاجتماعي لتلك المناطق، بين أهل البداوة والترحال نزلاء الصحراء، يحظون بالغلبة لقدرات لديهم قتالية، وبين أهل الاستقرار من المزارعين سكان القرى الواقعة مثلاً على ضفاف نهر النيجر أو نهر السنغال. وكثيراً ما تطابق ذلك الانقسام السوسيولوجي، مع نظير له عرقي و/أو ديني، إذ غالباً ما كان المزارعون من سكان القرى من الزنوج عرقاً ومن الوثنيين ديانة (قبل دخول المسيحية أثناء الحقبة الاستعمارية) وكثيراً ما كان البدو، المعتاشون على الإغارة وعلى التجارة، من القبائل المسلمة والعربية، حقيقة أو ادعاءً، تزعم عروبة، وقد يزعم بعضها لنفسه نسباً شريفاً، مع أنها في الغالب قبائل زنجية تعربت، أو أمازيهغية، على سبيل المثال، شأن الطوارق، أو سوى ذلك، أدرجت نفسها ضمن عروبة مفترضة، فماهت بين الرابطة الدينية وتلك العرقية. ثم إن الغلبة تلك عادت، على نحو أكثر تخصيصاً، إلى سمة أساسية ميزت إسلام العصر الوسيط في الربوع الشمال إفريقية، حيث أفضى انتقالها إلى الإسلام إلى مغادرتها عالماً متوسطياً كانت ضالعة فيه على نحو شبه حصري، في العصور القرطاجنية والرومانية والبيزنطية، إلى عالم صحراوي، أضحى المتوسط خارجاً عنه، تبرأ منه المسلمون فأسموه «بحر الروم»، في حين استمر الأوروبيون يطلقون عليه تسمية «بحرنا» (mare nostrum)، فأضحى المجال الصحراوي بذلك، حيز الانتماء الراجح ومجال غلبة لا تُضاهى، تكاد تبلغ مبلغ الإطلاق، واستمر أمره كذلك حتى وفود الاستعمار الذي سعى إلى قلب ميزان تلك الغلبة، وأفلح في ذلك إلى حد بعيد، بأن بجّل، لنزوع فيه طبيعي أو يكاد، مجتمعات المزارعين ضد قبائل ناصبها في الغالب العداء.كانت غلبة على المجال الصحراوي استتبت قروناً، قوامها بأس القبائل، وقوافل التجار، والطرق الصوفية، المغربية المنشأ في الغالب، تنشر الإسلام في تلك الربوع «الساحلية»، وتستتبعها بذلك روحياً وثقافياً، في حين أضحى البعد المتوسطي لشمال إفريقيا، هامشياً أو استثنائياً، وانكفأ مع فقدان السيطرة على جزيرة صقلية، ثم وبالخصوص بعد سقوط الأندلس. وربما كان مثال المغرب بالغ الدلالة في هذا الصدد، على بلد إسلامي شمال إفريقي، فقد امتداده المتوسطي بسقوط الأندلس وانكفأ على خلفيته الصحراوية، وتلك سمة ما انفكت تميزه، إلى حد بعيد، حتى عهد عاهله الراحل الحسن الثاني على أقل تقدير.علاقة الغلبة التاريخية تلك بين شمال الصحراء الكبرى وجنوبها، أو بين «ضفتي» الساحل الإفريقي، والتي ما انفكت تشهد إعادة نظر منذ دخول تلك المنطقة إلى العصر الحديث، هي التي تشكل الخلفية التي تناولناها هنا بإيجاز مخلّ والتي قد لا يتيسر فهم ذلك التوتر الذي يخترق المجال الصحراوي من السودان إلى موريتانيا من دون استحضارها، وإلا كان التناول عينيّا موضوعياً، قد يخفق في النفاذ إلى الديناميكية العميقة لصراعات تضرب بجذورها في جغرافيا سياسية بعينها، ضاربة في القدم تواجهها إعادة نظر جذرية، مضماراً لحروب سجال، جارية وستجري إلى أمد قد يطول.* كاتب تونسي