مشهد
في صباح يوم لاهب من أيام أغسطس وفي أثناء ركوبي مترو أنفاق القاهرة من محطة السادات (ميدان التحرير سابقا) إذا بمواطن لا أدري كيف جمعت ملامح وجهه كل سمات المصري، من إرادة وعزيمة وصبر وحضارة، على الرغم من عمره الذي لا يتعدى الأربعين، بل لمحت في عينيه ملخصا كاملا لتاريخ مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية، وما إن ارتفعت عيناي فوق رأسه حتى رأيت وجها آخر لطفل لا يتجاوز الثامنة ينبئ وجهه عن براءة يشوبها ألم، فبدا شاحبا هزيلا تلتف يداه الصغيرتان حول عنق والده الذي يحمله فوق ظهره، وفي إحدى يدي الطفل «كانيولا» صغيرة ولمن لا يعرف «الكانيولا» فهي الإبرة الوريدية الصغيرة التي نضعها في يد المريض لتغذيته وعلاجه أثناء وجوده داخل المستشفى، فلم يكن الأمر يحتاج لذكاء قليل أو كثير لتدرك على الفور أن الطفل خارج لتوه من إحدى مراكز العلاج الحكومية في القاهرة، وأن والده المواطن المصري البسيط لم يجد أمامه وسيلة للانتقال -رغم حالة ابنه الصحية- سوى زحام مترو الأنفاق لينقله من المستشفى، أيا كان اسمه، إلى منزله، أيا كان مكانه.
لم يستغرق الأمر أكثر من دقيقة ليدرك الإنسان حجم المعاناة التي يعيشها هذا المواطن البسيط الذي يتحمل كل شيء طول الوقت بإيمان وصبر لا ينقطع فلم يتاجر بمرض ابنه، ولم يسأل الناس، ولم يتأفف ولم يضجر، بل حمله على ظهره كما يحمل قدره، لم يتبرم ولم يسخط ولم يرفض ولم ينظر إلى ما حوله من صور وإعلانات لبضائع وسلع استفزازية لم يستعملها ولم يتخيل يوما أن يشتريها، وسألت نفسي إذا كان هذا هو سلوك المواطن المصري البسيط وتصرفه وقدره في هذا الزمان والمكان، ففي المقابل هل توجد أي درجة من الإنسانية في سلوك الحكومة التي دفعت المواطن لمثل هذا التصرف؟! هل يمكن أن يخرج الطفل هكذا من المركز العلاجي؟! ألا يعتبر علاج المواطن والمحافظة على كرامته وإنسانيته أولى مسؤوليات الحكومة وواجباتها؟! وهل يقبل أي شخص نصف أو ربع مسؤول أن يحدث هذا لابنه؟ قد لا يكون المرض خطيرا أو مستعصيا على العلاج ولا أطالب بسفره إلى الخارج للعلاج على نفقة الدولة كما يحدث مع الفنانين ولاعبي الكرة وشيوخ الفضائيات ... المطلوب فقط احترام آدمية الإنسان وكرامة المواطن فهل هذا كثير؟! في لحظة لم أدر ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ وما الذي يليق بهذا المواطن لأقدمه له؟ وأخجلتني النظر إلى عينيه من فعل أي شيء، فسألته في تردد عما يمكنني فعله؟ فأدار الرجل رأسه ناظرا إلى ابنه وعلى وجهه ابتسامة أمل ورجاء وقال ادع له... فقط أدعو له هذا كل ما طلبه هذا المواطن البسيط الصابر لابنه المريض. كان هذا هو المشهد الأول في صيف أغسطس شديد الحرارة في مترو أنفاق القاهرة، أما المشهد الثاني فحدث في صيف الجزيرة العربية منذ 1400 عاما وتلخصه العبارة المعروفة التي قالها الرجل البدوي لأمير المؤمنين «حكمت فعدلت فأمنت فنمت قرير العين يا عمر». أما المشهد الأخير في مقال اليوم الذي تداعى إلى الذاكرة فكان المشهد الذي عايشناه جميعا في 6 أكتوبر 1981 في عرض عسكري مهيب واحتفال ضخم شاهده العالم كله وحدث ما حدث واختفى صاحب الاحتفال من الدنيا كلها في أقل من دقيقة. كانت هذه هي المشاهد التي تجمعت في رأسي لحظة رؤيتي للطفل الصغير المحمول على ظهر والده وفي يده «كانيولا» صغيرة فهل من رابط يجمع هذه المشاهد؟