كثيراً ما يعّن عليّ اسمه وترتسم أمامي صورته ويأتيني صوته أو صداه، هو الشاعر عبد الأمير الحصيري، حيث جمعتنا مدرسة ابتدائية واحدة هي مدرسة السلام، وفيما بعد درسنا في «متوسطة الخورنق في النجف»، حيث بدأ خطواته الأولى في التمرد!

Ad

في العام 1958 وبعد ثورة 14 يوليو، جاءنا أستاذ اللغة العربية جواد كاظم الرفيعي ليبلغنا أن شاعراً جديداً سينضم إلى قافلة شعراء النجف وفاجأنا بقوله: زميلكم الحصيري، واستغربنا قوله لأننا كنا نلتقيه يومياً، وهو بيننا، ولم نكن قد تلمسنا بعد موهبته الفذّة، إلى أن بدأنا نشعر بتميّزه الأدبي، لاسيما بعد اختياره لقراءة مقطوعات من شعر الجواهري في أيام الاثنين والخميس من كل أسبوع، في احتفالات خطابية لأغراض تعبوية في الساعة الأخيرة (الدرس الأخير) قبل انتهاء الدوام، حيث كان ينظمها اتحاد الطلبة.

وكان الحصيري في عدد من المناسبات الوطنية يعتلي المنصة ليقدّم لمستمعيه بعض قصائده التي كانت تنال إعجاب الحاضرين لاسيما نحن مجايليه، وإذ نستعيد ذكرى رحيله الثلاثين فإنني أستذكر باعتزاز صدق نبوءة الرفيعي، الذي رأى فيه شاعراً واعداً، حيث أصبح الحصيري بعد انتقاله إلى بغداد، حديث المجالس والندوات والمقاهي والحانات، بسرعة فائقة، من اتحاد الأدباء، إلى الصحافة، إلى النقاد، إلى محافل الدراسة والجامعات، وأخيراً وليس آخراً إلى مقاهي المثقفين اليساريين والوجوديين والقوميين حسب تصنيفات تلك الأيام!

كان الحصيري يسكن في محلة العمارة في النجف قرب منزلنا في عكَد السلام «زقاق السلام» وكلّما كان يذهب إلى السوق أو المدرسة أو حضرة الإمام علي، فإنه لابدّ أن يمرّ من أمام بيتنا، حيث كنّا نجتمع أحياناً في بعض الأمسيات. وكانت الشلّة تضم: عمي شوقي شعبان وباقر الدجيلي وجودي فخر الدين وأحمد هندي أبو كلل وهادي الجزائري وآخرين، وكان الحصيري يتردد علينا في بعض الأحيان ولبعض الوقت.

كان الحصيري طالباً خجولاً جداً لكنه متفوق في الدراسة، وكان هاجس الشعر يسكنه، فترك دراسته بعد أن ضاقت به المدينة، وأتذكر عندما كنا نناقشه كان يردد علينا قول الشاعر الفرنسي بودلير: «لقد بُليت سراويلنا من مقاعد الدرس ...» تباً لهذه النمطية والرتابة، أريد أن أعيش خارج هذا العالم. أتذكر الحصيري وهو دائماً ما يستحضر بيتاً من شعر المتنبي أو البحتري أو الجواهري حين كان يرتدي الدشداشة (الجلابية)، خصوصاً أيام عاشوراء، ويلبس سترة غامقة فوق الدشداشة السوداء، وكان شعر شاربه وذقنه قد اختط لتوه فترك وسامة على وجهه الأبيض المستدير ولاسيما تحت الحنك.

كان الحصيري باستمرار يحمل بعض دواوين الشعر وفي مقدمتها ديوان المتنبي الذي كان يتأبطه لدرجة لا يكاد يفارقه، وذلك بدلاً من كتب الدرس التي كان يضجر منها، لكن كل تلك المظاهر كانت تؤشر إلى قلقه وعدم اطمئنانه وإلى اختزانه حزناً عميقاً وهمّاً لا حدود له!!

لقد سئم الحصيري العيش في ذلك «الجو الكئيب» على حد تعبيره رغم الفكر المنفتح، لكنه في مجتمع منغلق على حسب ما كان الشاعر مصطفى جمال الدين يقول، فودّع زملاءه منتقلاً إلى بغداد «الجنة التي كان يحلم بها»، وفي بغداد ظل الحصيري حيث كنت ألتقيه طوال الستينيات، يتنقل من مقهى إلى آخر، فيبدأ نهاره في مقهى «البرلمان» أو مقهى «البلدية» لينتقل إلى مقهى «عارف آغا» وأحياناً إلى «شط العرب» ومن حانة إلى أخرى يتذوق خمور حانات «آسيا» و»كاردينيا» و«الجندول» و«سرجون» وغيرها، فقد كان «زبوناً» دائماً هناك!

كانت قصائد الحصيري تحذو حذو شيوخ الشعر في مدينته خصوصا الجواهري «رمزه الكبير» وقد التهم نهر دجلة الكثير من قصائده، حينما يكون ثملاً يترنح في الكثير من الأحيان، وضاع قسم منها وهو في تنقل دائم بين غرف الحيدرخانة وأزقتها الضيقة، حيث وافته المنية في أواسط عام 1978، هناك وحيداً ومكسوراً ومنكفئاً على ذاته حدَّ الاختناق.

الجواهري الكبير في إحدى تجلياته وأنا أتسامر معه، أبدى حسرة لفقدانه، فقد كان يتوسم فيه شاعراً متميزاً منذ أواخر الخمسينيات أو ربما منذ أوائل الستينيات، وعند عودة الجواهري من منفاه الأول في أواخر الستينيات روى لي كيف اقتحم الحصيري خلوته ذات يوم، لكنه عامله برقة، وظل على هذه الشاكلة رغم انفلاتاته غير المحسوبة.

كتب الشاعر الحصيري الكثير، لكن الذي دُوِّن أو حُفظ من شعره كان قليلاً، وكان صديقه عزيز السيد جاسم المفكر والكاتب المتميز المختفي قسرياً منذ العام 1991 قد نشر له وعنه وأعدّ فيه كتباً ودراسات. كما نشرت «مجلة الأقلام» البغدادية ملفاً موسعاً عنه في التسعينيات، كنت ألتقي مع الحصيري في الستينيات في المقاهي والحانات، وأتذكر أنه أهداني عدداً من دواوينه إضافة إلى بعض قصائده. ومن أصدقائه في تلك الفترة الشاعر شاكر السماوي، والصيدلي عزيز حسون عذاب وعزيز السيد جاسم ووليد جمعة وعبد الرحمن طهمازي وسواهم. وقد استذكرت قبل أسابيع ذكراه مع الشاعر شاكر السماوي الذي يعدّ أحد رموز القصيدة الشعبية في الشعر الحديث، عند لقائنا في لندن.

عند عودتي الأولى إلى بغداد من الدراسة في الخارج، التقيت الحصيري مرات عدة، وكنت قد أدركت أي عذاب تركته السنين عليه فضلاً عن الحرمان المزمن والوحدة الدائمة، ورغم أن الكثيرين يقصدونه ويحيطونه بالسؤال حيث كان يلتقي العشرات يومياً من الأدباء والمثقفين، فإنه كان يعاني غربة شديدة من المحيط والمجتمع والأصدقاء، بل مع نفسه أيضاً.

ولم يكن لهذا الانسان المسالم، المتسامح، ذي القلب الرقيق سوى الشعر، عالمه الوحيد ودنياه الصاخبة، لا يعرف سوى معلومات شحيحة عن عالم المرأة أو المال أو السفر (باستثناء سفرة فاشلة إلى الكويت) كما لم يعرف الاستقرار ولم يكن يذهب إلى الحمام ليغتسل إلاّ في المناسبات التي قد لا تزيد عن مرتين في العام، ولا يعرف كيف يتصرف إزاء الكثير من الأشياء، بدون الخمرة التي كانت سميره الوحيد في عالمه الموحش والبارد وتشرده وحزنه المرير.

ومن المفارقات أنني التقيت الحصيري مرة وإذ به يرتدي بدلة وربطة عنق وعلى غير العادة بدا حليقاً ونظيفاً... فحيّاني مبتسماً مستبقاً سؤالي عن «السر» في هذا التبدل المفاجئ، بالقول إن الحكاية باختصار أن السيد وزير الإعلام «صلاح عمر العلي» استدعاني وأحرجني بتعييني بوظيفة استشارية في الوزارة براتب قدره ثمانون ديناراً (كي لا تذهبوا بالتفسيرات!!)، وكان أول راتب استلمه الحصيري، فجاء بهندامه الجديد إلى حانة الجندول على ما أتذكر وأغلق الباب وأمر النادل اعتبار جميع من في الحانة ضيوفه، لكنه جاء بحال وخرج بحال أخرى، وبعد أسابيع صادفته وقد عاد إلى هيئته القديمة، فبادرني بالقول «عادت حليمة إلى عادتها القديمة».

يقول الحصيري في إحدى تجلياته برمزية صوفية مثيرة:

«أنا الشريدُ!! فما للناسِ تذعرُ مـني وكنتُ أفزعُ للحانات تشربني

قد بتُّ أمضغ أعراقي وأوردتي

والحانةُ الكونُ والجُلاسُ من خلقوا

وجهي وتهربُ من أقداميَ الطرقُ

واليوم لو لمحتْ عينيَّ تختنق

وأرتوي من جراحاتي وأنسحق»

كان الحصيري يخاصم الجميع أو يختصم معهم على طريقته التي باتت معروفة من أصدقائه ومجايليه، لكنه يعتبرهم جميعاً أسرته حيث لم يكن هناك عدو له، وفي حين أراد كثيرون احتسابه عليهم، أو ضمه إلى فريقهم أو شلتهم، أو استخدام أشعاره وتوظيفها لصالحهم، لكنه ظل على طريقة الشاعر سعدي يوسف « أسير مع الجميع، وخطوتي وحدي»، لقد كان الحصيري، مع الشعر ومعه وحده لا يقبل شريكاً أو منافساً له، وظل مخلصاً له حتى النهاية!!

* باحث ومفكر عربي