يعتبر أن العولمة لا تؤدّي إلى تبديد الهويّة... العرب لا يستطيعون تقديم البديل د. نبيل عبدالفتاح لـ الجريدة: الأمن الثقافيّ الإسلاميّ مصطلح بوليسيّ مرفوض
يؤكد د. نبيل عبدالفتاح المفكّر المصري المعروف ورئيس تحرير تقرير «الحالة الدينية» أن العولمة هي تطوّر طبيعي للرأسمالية الغربية، وتعامل المسلمين معها لم يكن كما يجب للاستفادة من إيجابياتها بل إنها تُنقل لهم جاهزة. عن أبرز سلبياتها وقراءته المستقبلية لأحوال العالم العربي في ظل الأوضاع الراهنة، تحدث د.عبدالفتاح إلى «الجريدة» في سياق الحوار التالي.كيف ترى واقع المسلمين اليوم وهل هم قادرون على مواجهة طوفان العولمة؟
لا نستطيع تعميم الكلام على المسلمين كافة, لأن الرابطة الدينية تخفي وراءها انتماءات عدة, ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية, وبالتالي لا بد من التمييز في استخدام هذا المصطلح والأخذ في الاعتبار نسبة المسلمين بالنسبة إلى النظم السياسية المختلفة والمناطق الجيوبوليتيكية, هناك مثلاً مسلمون في دول آسيوية يُعدون جزءاً من الظواهر العلمانية في عالمنا, كما في ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا, ويمكن القول أيضاً إنها إحدى الظواهر العولمية, ومن ثَم فمواجهة العولمة صعبة جداً وفي بعض المجتمعات مستحيلة, لأنها أصبحت جزءاً من العولمة فعلا.ما هي أسباب قبول المسلمين للعولمة وماذا عن صورها في العالم الإسلامي؟بعض المجتمعات تقبل العولمة كونها أحد الفواعل فيها وطرفاً في الشبكات العولمية على مستوى إنتاج التقنية والأسواق وجزءاً من طاقات الإمبراطورية المتعددة الجنسيات, ومن ثم لا نستطيع مطالبة تلك الدول بإعطاء ظهرها لعمليات التحوّل العولمي وتطوراتها في التكنولوجيا والمعرفة والأسواق المفتوحة باعتبارها طرفاً منها وفي الوقت ذاته مستهلكة للظواهر والمنتجات العلمانية، وهو أمر لا يتناقض مع هوية تلك المجتمعات وثقافتها وأنماط حياتها التي تتعولم أقسام رئيسة في إطار السيرورات العولمية, وبالتالي فهم أطراف مستفيدة من الحالة الموضوعية للتطور في بنية الرأسمالية العولمية ومن الأسواق العولمية المفتوحة, وهذا الوضع ناتج من الدور البارز الذي لعبته بعض قيادات تلك الدول والنظم السياسية كما في حال مهاتير محمد في ماليزيا والقادة السياسيين والنخبة الحاكمة في سنغافورة وهناك دول مستفيدة من العولمة وطرف في عملياتها مثل تركيا، حيث تهدف إلى أن تصبح جزءاً من أوروبا، وتُستخدم العولمة كمدخل لانتقال تركيا إلى دائرة الدول المتقدمة وهو ما نستطيع لمسه الآن في صناعة واقتصاد ومستويات المعيشة هناك لإدراكهم الجوانب الإيجابية من العولمة. لدينا في الدول العربية النفطية في الخليج وشبه الجزيرة العربية بعض النظم الاقتصادية المعولمة إلى جانب أنماط الاستهلاك كما في دبي وأبو ظبي, إلا أن ذلك لا يمنع المواطنين من الحفاظ على رموز الثقافة المحلية، ومن مظاهر العولمة وصورها أنماط الإنتاج واستثمار الأموال والنظم الأمنية وتداخل الشبكات الأمنية في العالم وانتشار الفضائيات والتي أصبحت الآن تصيغ لغة العالم وتساهم في صياغة الدول العربية والإسلامية.العولمة إيجابية أم سلبية؟العولمة هي ظاهرة موضوعية وليست دعوة للانخراط أو عدم الانخراط داخلها, وبالتالي الأمر لا مجال فيه للاختيارات واسعة المدى, فثمة تعايش في العالم العربي والدول الإسلامية مع العولمة.ما رأيك في الآراء الرافضة للعولمة وتقييمك لوجهة نظرها؟لا يستند الخطاب الزاعق الايديولوجي والديني حول رفض العولمة على أساس موضوعي، فأينما تحرك هؤلاء الرافضون للعولمة سيجدون مظاهرها وهم يستخدمونها في كل أمور حياتهم، يمكن القول إن العالم العربي الآن يعيش على هبة الصين وآسيا, وبالتالي فالخطاب الزاعق هو خطاب مأزوم يمكن وصفه بالتراجوكوميدي أو بالكاريكاتوري في أفضل الأحوال, ولو نظروا نظرة موضوعية لحالهم لوجدوا أن السوق يسير في إطار عالمي وفضاء عولمي موحّد وأنماط إنتاج واستهلاك معولمة, وبالتالي الدول الإسلامية في غالبها دول متخلّفة في اقتصادها وحياتها السياسية التي تتسم بالاستبداد والديكتاتورية وقمع الحريات العامة والشخصية، فهي دول تابعة يسودها الكسل السياسي والإنتاجي وتردي مستويات المعرفة والإنتاج الثقافي إلا فيما ندر، وفيها أنظمة تعليمية منحطّة، من رياض الأطفال حتى التعليم فوق العالي.إذاً أنت ترى أنه لا بديل للعولمة يستطيع الإسلام تقديمه كمشروع حضاري ونظام عالمي؟الإسلام عقيدة ولن يقدم لنا الإنتاج ونحن عاجزون, ولن يرفعنا ونحن قابعون. في ظل الظروف التي ذكرتها لا يمكن القول إننا يمكن أن نقدم شيئاً كبديل أو حتى موازياً للعولمة، ليس أمامنا إلا الانخراط الفاعل والإيجابي فيها بالتعليم المتقدم والمتطور وإيجاد الحريات العامة والخاصة التي تصنع الإنسان المبدع والعقل الخلاَّق القادر على أن يكون جزءاً من الظاهرة, مبدعاً وفاعلاً.هل الأمركة والعولمة وجهان لعملة واحدة؟ثمة خلط واضح بين السياسات الأميركية وما تنتجه العولمة من نظم وإيجابيات تخدم المجتمعات, دليل ذلك أننا لا نتوارى عن استيرادها وكلاهما لا يمت للآخر بصلة، فالعولمة شيء والأمركة شيء آخر.ما نشهده الآن هل هو حوار أم صراع بين الحضارات؟شاع مصطلح «صراع الحضارات» في الكتابات العربية والعالمية في أعقاب مقالة «صامويل هنتينغتون» في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية ثم كتابه الذي صدر بعد ذلك، وكانت تلك محاولات لتحديد هوية الغرب وفي قلبه الإمبراطورية الأميركية بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية, التي كانت تمثل التحدي الأقوى للإمبراطوية الحضرية، فكان هناك حاجة لاصطناع عدو آخر، من هنا كانت المحاولة الذهنية والفكرية والتنظيرية لأستاذ الحكومات المقارنة الأكبر «هنتنغتون» لتحديد من هو العدو في إطار المصطلح الذي صاغه «صراع الحضارات»، تلك الحالة التنافسية موجودة بين الكتل الثقافية في عالمنا مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والأميركية اللاتينية, وهو تنافس يقوم على الإبداع وحرية التبادل الثقافي, ولكن هذا التنافس وبعض مظاهر الصراع بين تلك الكتل الثقافية الكبرى, يقف العالم العربي وغالبية الدول الإسلامية خارجها تماماً, ومن هنا لا نستطيع القول بأن لدينا صراع حضارات لأننا خارجه وذلك للقصور الذي نعيشه من ضعف مؤشرات الترجمة والتبادل الثقافي المترتب عليها وتغذية المناشط الثقافية والإبداعية المختلفة, إذ ليس لدينا الرغبة الحقيقية في حقن الجسد الثقافي في العالم العربي وغالبية الدول الإسلامية بدماء وأعصاب جديدة قادرة على فهم متغيرات العالم ومن ثم القدرة على التفاعل الحضاري ثقافياً وعلمياً.تحدثت عن إيجابيات عدة للعولمة يمكن أن تخدم المجتمعات الإسلامية، لكن هل ثمة سلبيات للعولمة؟بالتأكيد، ضياع سيادة الدولة وسيادة القانون وذلك يتضح جلياً في أشكال التشبيك بين الأجهزة الأمنية الاستخباراتية والأمنية الداخلية الخاصة بالدول الإسلامية مع الدول الغربية، مما يساعد الجهات الأميركية في هدفها وتلك من أبرز سلبيات العولمة ولكنها تظهر بشكل أكبر في البلدان المستباحة الضعيفة.إذا، ترى أن ثمة ما يسمى بـ{صراع الحضارات»؟ أرى أن من يرفعون شعار «صراع الحضارات» هم من يستفيدون من استثمار المصطلح ايديولوجيا كالذين يضعون الثنائيات الضدية بين الإسلام والغرب والعالم العربي والغرب، وهؤلاء يعطيهم المصطلح مدداً لتوظيف وإعادة نظرية المؤامرة الكونية التي يعتبرونها كل شيء حتى العولمة مؤامرة موجهة ضد العالم العربي أو بعض الدول الإسلامية ويفسرون المشاكل والآراء على نحو ساهم في إفقار الفهم السياسي والفكري على مستوى العالم العربي.ما مدى صحة تأثير العولمة في الأمن الثقافي الإسلامي؟أعترض على تعبير الأمن الثقافي الإسلامي والذي شاع هو ونظائره في فترة معينة في مصر من إعادة بناء الإنسان العربي والمسلم, والأمة الإسلامية والخلافة الإسلامية وغيرها من التعبيرات التي تحاول أن تمد الاستخدامات البلاغية والسياسية والدلالية من اصطلاح الأمن والثقافة والصحة والفنون، وذلك كله تعبير عن سطوة التفكير الأمني وتدخل الأجهزة الأمنية إلى خلايا الفكر السياسي والاجتماعي في بعض دول المنطقة, وهو ما يمكن تسميته بظاهرة بولسة الفكر السياسي في البلاد واللغة الإعلامية للصحف والوسائل الأخرى، وهي ظاهرة تتسم بالسحق والسطحية في تحليل الظواهر, ومصطلح الأمن الثقافي الإسلامي ينتمي إلى تلك المصطلحات البوليسية لأن العولمة لا تؤدي بالضرورة إلى تبديد الهوية والثقافات الإسلامية والعربية التي تتنوع بتنوّع الدول والمجتمعات المختلفة وذلك على خلاف ما يذهب إليه مستوردو الموجة الأولى من الانتقادات التي وجهت للمجتمعات المعولمة، فالبعض استورد قائمة الانتقادات من الأدبيات الغربية النقدية التأملية إلى اللغة العربية وروجوا لها على اعتبار أنها حقائق.إذاً أنت تحاول التأكيد أن العولمة إيجابية لا يجب انتقادها؟قدمت العولمة ثورة معلوماتية وثقافية ساعدت بها الهويات الصغيرة في العالم في الدفاع عن هوياتها وتوثيق تاريخها ورموزها وفولكلورياتها، لذا نستطيع القول إن الحفاظ على الهويات والثقافات لا يكون بالتقوقع ولا ببناء الأسوار.من وجهة نظرك كيف ندافع عن ثقافاتنا العربية والإسلامية في ظل سطوة العولمة؟بالتجديد في البنيات الثقافية أو إتاحة البيئة السياسية والاجتماعية والدينية الملائمة للإبداع في كل مناحي الحياة، وهو ما لا يتم إلا في حالة وجود مجتمعات ديموقراطية تسودها المواطنة وتجديد الفكر الإسلامي والمسيحي في العالم العربي واحترام الفرد والفردية وسيادة القانون.يرى البعض تناقضاً بين العروبة والإسلام، كيف يمكن الرد على ذلك؟التناقض بين العروبة والإسلام جزء من توترات وصراعات مرحلة المد الإسلامي السياسي المعاصر والذي انعكس على العلاقات ما بين التيارات القومية الناصرية والبعثية وبعض الماركسيين العرب وبين الحركات الإسلامية السياسية، مثل الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والسلفية الجهادية وحزب التحرير الإسلامي، وغالبية الجماعات التي ركزت على الصراع الإيديولوجي ثأرا من الجماعات القومية واليسارية التي أسست لدولة ما بعد الاستقلال ورفعت شعار القومية العربية في وجههم ومنها الماركسية والشيوعية والتي ما زالت ترى أن القومية العربية مشروع قومي مهم, ومن هنا برز التناقض ورغبة بعض الجماعات في الثأر من تلك الأنظمة القومية والتي حاكمت الجماعات الإسلامية السياسية، فكان الثأر أول أولوياتهم واستخدموا النزعة الصراعية إزاء العروبة والجامعة القومية كمادة للتعبئة, ومن المثير أن نلاحظ بعض كوادر حزب التحرير الإسلامي والإخوان المسلمين كان ينتمي للفكر الناصري والقومية العربية ثم نكص على أعقابه وتبنى الايديولوجيات الإخوانية, إلا أن هناك اتجاهاً بين بعض المفكرين يؤيد عدم وجود تناقض بين العروبة والكنائس المسيحية الغربية لأن بعض المسيحيين العرب هو من أوجد فكرة الجامعة العربية في مواجهة اضطهاد الدولة العثمانية, لكن بشكل عام التناقض بين العروبة والإسلام مظهر من مظاهر التردي الفكري والسياسي في الخطابات الدينية الوضعية التي تنتجها بعض المؤسسات الدينية الرسمية في الدول العربية. لا يوجد تناقض أبداً من وجهة نظري في كونك عربياً مسيحياً في الوقت ذاته ولا فرق في الهوية القومية.بم تفسر التنظيرات الأميركية التي تأتينا بزعم حل مشاكل الأمة الإسلامية؟أفسرها بالضعف, لو لم نكن ضعفاء ما نَظَّر علينا أحد ولو لم تكن دولنا الإسلامية واقعة تحت تأثير وتبعية الدولة صاحبة الإمبراطوريات في كل المجالات ما وقعنا تحت تنظيرهم، تعمل النخبة الحاكمة والسياسية البارزة في الدول لهدف واحد لا يمت بصلة لسمو سيادة الدولة وحفاظها على سيادتها على كل المستويات سواء الثقافة أو الإعلام أو حتى المياه الخاصة بها، فلا نلوم إلا أنفسنا ونظمنا السياسية المستبدة.هل ترى أن الإعلام هو أحد الأسلحة المستخدمة في فرض الهيمنة الغربية؟بشكل كبير هو سلاح مستخدم في ذلك، لكن السبب هو خضوع الإعلام في كل دولنا العربية لسلطة النخبة الحاكمة, لذا فهو يقدم المضمون الذي يعكس سياسات تلك النخبة السياسية والمتحكمة، وبالتالي هو عامل مساعد لهم في تعميم خطاب واحد في التعامل، والسطوة تقع على عاتق الشعب في النهاية، لكن لو كان لدينا إعلام حر ما استطاع أحد استخدامه على هذا النحو.هل ثمة ما يوحّد الرؤى للنهوض بالعالم العربي عامة كالجامعة العربية مثلاً؟مثلا، هناك توترات بين الجاليات العربية وبين مواطن البلدان النفطية بما يحتاج إلى جهد على المستويات كافة, ومن جانب كل الدول, وهذا الدور كان من الممكن أن تقوم به الجامعة العربية لكننا أمام كيان هرم مشلول الأطراف ولا يعدو أداؤه أن يكون تعبيراً عن تناقضات وتضارب المصالح بين الدول العربية وبعضها ومنتزه قائم على نيل القاهرة لا يلعب أي دور فاعل في حل المشكلات وبروز الكراهية بين الشرائح المختلفة في عالمنا العربي.حال العالم العربي والإسلاميماذا عن قراءاتك المستقبلية لحال العالم العربي والإسلامي في ضوء الأوضاع الراهنة؟يتمثل أحد أبرز المشاهد السياسية في العالم العربي في ارتداد بعض العلاقات السياسية داخل الدول من الروابط ما فوق الأولية إلى ما دونها من روابط أولية تتأسس على العرق والقبلية والعشيرة والصراعات المذهبية والسنية والشيعية وعلى مستوى المسيحية العربية الأرثوذكس والبروتستانت، ثمة تناقضات وتنافسات بينهم وهي ظاهرة ارتداد إلى ما قبل الدولة الحديثة مع استخدام وسائل الحداثة في تأجيج تلك الصراعات، فنلاحظ ذلك في أعقاب انهيار النظام البعثي في العراق بين المكونات الأولية للشعب العراقي والذي تحول الى صراعات دموية تصل لصراعات أهلية ممتدة، وأيضاً الصراع السني والشيعي في منطقة الخليج والتوترات الدينية المسيحية والطائفية ومنها في مصر والصراعات بين العرقيات كالسودان وبين القبائل الأخرى في دارفور وعلى رأسها القبائل الكبيرة وعدم قدرة النخبة السياسية وفشلها التاريخي من قبل وبعد الاستقلال على صياغة المؤسسات والقيم السياسية التي تصنع تراضياً عاماً بين جميع الجماعات المكونة للسودان الحديث، حتى أصبحت الآن مرشحة بقوة للتفكك إذا لم تبرز مبادرة شجاعة وأمنية من قبائل الوسط لجمع شمل أهل السودان، والوضع نفسه بالنسبة الى غالبية الدول في العالم العربي من تمييز وتبديد أواصل الاندماج وهي من أكبر المشكلات التي ستعاني منها الأجيال المتوسطة والبعيدة، ومن ثم هذا يمثل أحد مواطن الضعف والوهن البنائي في العالم العربي.