Ad

إن ما لا يفهمه ولا يدركه «المزايدون»، الذين يبيعون البسطاء والمساكين مواقف ثورية للضحك على ذقونهم، واستدراج عواطفهم أن عالم الأمس، عالم الثورات والحرب الباردة وصراع المعسكرات، هو غير عالم اليوم، حيث هناك الآن نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة شئنا أم أبينا.

عندما تهمل سورية كل ما قيل، بعد حرب «الانتصار الإلهي» في يوليو 2006، بأنها ذاهبة إلى خيار المقاومة والحرب الشعبية لاستعادة الجولان المحتل، وتدخل مع إسرائيل في مفاوضات جدية وجادة وفعلية عبر الوساطة التركية، وعندما تواصل حركة «حماس» استجداء الهدنة والتهدئة ولا تواجه إلا بالصد والإهمال، وعندما يكون الوضع العربي على ما هو عليه، فعلى ماذا يراهن «المزايدون» الذين يطالبون بالتخلص من اتفاقية «وادي عربة» ومعاهدة كامب ديفيد، والعودة إلى الخيار العسكري واستقبال بوش القادم إلى المنطقة بعد أيام قليلة بالقنابل... وبـ«الشلاليط» على قفاه؟!

إن ما لا يفهمه ولا يدركه هؤلاء «المزايدون»، الذين يبيعون البسطاء والمساكين مواقف ثورية للضحك على ذقونهم، واستدراج عواطفهم أن عالم الأمس، عالم الثورات والحرب الباردة وصراع المعسكرات، هو غير عالم اليوم، حيث هناك الآن نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة شئنا أم أبينا، وهذا هو الذي يجعل حتى الصين، التي كانت تستمد شرعيتها من ثورة ماوتسي تونغ ومن المسيرة الطويلة، تحرص على أن تكون جزءاً من هذا النظام، وتستمد شرعيتها من شرعيته.

لاشك في أن هناك مشاغبة على عالم القطب الواحد، ولاشك في أن الصين هذه، ومعها روسيا وبعض الدول الأوروبية، وأيضاً إيران حتى لا يغضب المخلصون لولاية الفقيه، تضغط في اتجاه أن يكون هناك عالم متعدد الأقطاب، لكن تحقيق هذه الغاية يحتاج إلى سنوات طويلة وإلى تغيـُّرات كونية كثيرة... وربما إلى حروب متعددة وإلى كوارث، وهذا يقتضي أن تتحلى الدول المهيضة الأجنحة بالمزيد من الواقعية، وألا تغامر وترتكب حماقات قد تكون بالنسبة إليها الضربة القاضية.

إن تغيير الاتجاه بينما الوضعية العالمية هي هذه الوضعية ليس سهلاً، فهذا النظام العالمي القائم الآن لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها، وهذه الخريطة العربية هي غير خريطة ستينيات القرن الماضي عندما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، فأنظمة الانقلابات العسكرية باتت في الرمق الأخير وتصارع سكرات الموت، ودول الخليج غدا همها التنمية والاستثمار، والمغرب العربي بات ينشغل بهمومه الخاصة، ولم تعد فلسطين همه الأول، وكل هذا بينما العراق وصل إلى ما وصل إليه وبينما مصر، التي لا يمكن من دونها أن تكون هناك مقاومة ولا حرب، تنشغل بتوفير أرغفة «العيش» لأكثر من سبعين مليون إنسان.

لنكن صرحاء وصادقين... هل هناك دولة عربية، بينما الوضع العالمي والعربي هو هذا الوضع، قادرة على أن تقول: «طُظ في أميركا» وقادرة على أن تقول للأشقاء الفلسطينيين عليكم أن تستقبلوا بوش بـ«الجزم» والبيض الفاسد... وعليكم أن تبصقوا على هذه المفاوضات وعلى عملية السلام وتعودوا إلى الكلاشنكوف... وإلى جمهورية الفاكهاني وإلى معسكرات المنافي البعيدة؟!

لقد قال وليد المعلم وزير خارجية النظام الذي كان يستمد شرعيته من قناعاته الإيديولوجية، عشية القمة العربية الأخيرة إن سورية لن تلجأ إلى الخيار العسكري «إطلاقاً» لاستعادة أراضيها المحتلة، وحقيقة أن معه كل الحق، وأن التمسك بالوساطة التركية للعودة إلى عملية السلام والتفاوض مع الإسرائيليين هو عين العقل، وهو الموقف الصحيح المستند إلى فهم واقعي وعملي لهذا الوضع الدولي القائم، ولهذه الحالة العربية الراهنة... وغير هذا فإنه سيكون مغامرة غير مضمونة العواقب.

يجب إدراك أن إسرائيل هي التي أصبحت تخشى السلام بينما كان العرب هم الذين يتخذون هذا الموقف سابقاً، ولذلك فإن أكثر ما يسعد الإسرائيليين ويصب الحب في طاحونتهم هو أن تتوصل المساومات والمفاوضات الماراثونية المستمرة ومن دون أي نتائج ملموسة الفلسطينيين إلى اليأس والملل والارتباك، فيتخذون مواقف غير مدروسة ويعودون إلى واقع الأمس الذي لم تكن ظروفه هذه الظروف ولا معطياته هذه المعطيات.

* كاتب وسياسي أردني