تناولت في مقالي في هذه الزاوية يوم الاثنين من الأسبوع الماضي التعليق على توجه إلى تجريم المطالبة بحل مجلس الأمة حلاً غير دستوري، وقلت إن المطالبة بتعطيل حكم من أحكام الدستور، أو المطالبة بتعطيل الدستور كله، هو موقف سياسي، لا يجوز أن يكون محلاً لتجريم أو عقاب، موقف تظله حرية التعبير التي كفلها الدستور لكل فرد، مادام أن صاحب هذا الموقف أو هذا الرأي لا يدعو إلى تنفيذ مطلبه بالعنف، حيث شمل الاقتراح تجريم المطالبة بذلك سواء بالقول أو الكتابة أو النشر.
واستكمالاً لهذا التعليق، فقد تخيلت تشريعاً يقره مجلس الأمة بتجريم الحق في المطالبة باستخدام السلطة التنفيذية لحقوق دستورية مقرره لها، مثل تجريم مطالبة هذه السلطة بالعفو عن العقوبة المحكوم بها على بعض المتهمين، وهو الحق المقرر لها بالمادة (75) من الدستور، ومثل تجريم مطالبتها بإعلان الأحكام العرفية، أيا كانت الظروف والأسباب المبررة لذلك، وهو الحق المقرر لهذه السلطة في المادة (69) من الدستور، ومثل تجريم مطالبتها بفرض ضرائب أو رسوم أو المطالبة بزيادة ما هو قائم منها، وهو الحق المقرر دستورياً لها بالمادة (134) من الدستور.كما تخيلت تشريعا يجرم قيام أحد الأفراد باتهام عضو مجلس الأمة اتهاما جزائيا، أو تجريم التجاء الفرد إلى القضاء الجزائي أو المدني ضد أحد أعضاء مجلس الأمة إذا خسر الفرد دعواه، بما يُخل بحق التقاضى، وبالمساواة أمام القضاء أو القانون أيا كانت البواعث النبيلة التي تقف خلف مثل هذا التشريع، ولو كانت حماية أعضاء مجلس الأمة من اتهامات كيدية أو باطلة توجه إليهم لإعاقة عملهم النيابي.كما تخيلت تشريعا يجرم كل مطالبة بإصدار مراسيم بقوانين في غياب مجلس الأمة، سواء بالقول أو الكتابة أو النشر، وتخيلت أن هذا التشريع كان معمولاً به عند حل مجلس الأمة عام 1999، عندما كنت مستشاراً فنياً لنائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، واستدعاني ليستطلع رأيي في مدى جواز إصدار قوانين الميزانية بمراسيم، خلال فترة حل المجلس، وأجبته بأن إصدار قوانين الميزانية بمراسيم في هذا الوقت ليس حقاً للسلطة التنفيذية فحسب، بل هو واجب حتمي يفرضه عليها الدستور، لأن مناط صدور المراسيم بقوانين هو قيام حالة الضرورة، والضرورة قائمة بنص الدستور، من اليوم الأول لحل المجلس حيث صادف صدور مرسوم الحل بعد أيام من بدء السنة المالية الجديدة، التي يجب العمل فيها بالميزانية الجديدة.واقتنع سيادته... وقام برفع مذكرة بهذا الرأي إلى مجلس الوزراء، وصدرت بناء عليها المراسيم بقوانين الخاصة بالميزانية والتي كان عددها يبلغ 25 مرسوما بقانون في هذا الوقت، قبل إدماج الميزانيات الملحقة كافة في قانون واحد والميزانيات المستقلة كافة في قانون آخر.وتصورت لو أن قانوناً يجرم المطالبة بإصدار مراسيم بقوانين في غياب مجلس الأمة، كان معمولاً به في هذه الفترة، لقيد في حقي اتهام بارتكاب جناية، يعاقب عليها القانون بالحبس مدة لا تجاوز خمس سنوات.في كل هذه الصور من التوسع في التجريم، لا يبدو هذا التوسع غير مقبول منطقياً فحسب، بل يعد تجاوزا على مبدأ شرعية التجريم والعقاب ومتناقضا مع مبادئ ونصوص دستورية أخرى، ذلك أنه ولئن كان الحق في اقتراح القوانين، حقاً دستورياً، وحقاً مشتركاً بين كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، «ولا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير»، إلا أنه ليس حقاً مطلقاً، لا يقيده قيد ولا يحده حد، بل تحوطه ضوابط واعتبارات دستورية، ويقف في مقابله حقوق دستورية أخرى.فالحريات التي كفلها الدستور للأفراد، الحرية الشخصية (مادة 30) وحرية الرأي والبحث العلمي (مادة 36) وحرية الصحافة والطباعة والنشر (مادة 37) وحق المواطن في الانتخاب (مادة 80)، وافتراض البراءة في الإنسان (مادة 34) وحق الاجتماع (مادة 43)، كلها حقوق دستورية تقوم منها منظومة متكاملة لبناء نظام ديمقراطي سليم، يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ولنفسه، وهي حقوق تقف سداً منيعاً ضد التوغل عليها بقوانين جزائية تفرض على الحرية الشخصية وحرية البحث العلمي وحرية الصحافة وحق الاجتماع، أخطر القيود وأبلغها أثراً.ولهذا كان لازماً أن تفرض الدساتير المعاصرة القيود التي ارتأتها على سلطان المشرع في مجال التجريم، تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية في كامل أبعادها، لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تتطلب نظاماً متكاملاً يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون -في إطار أهدافه- حقوق الفرد وحرياته الأساسية، وبما يكفل دوماً ألا تكون هذه القوانين مجرد إطار لتنظيم القيود على الحرية الشخصية، بل ضماناً لفعالية ممارستها، (المحكمة الدستورية العليا في مصر 1/10/1994 في القضية 20 لسنة 15 قضائية دستورية).كما أن الحرية في كامل أبعادها لا تنفصل عن افتراض البراءة في الإنسان، والتي تؤسس على الفطرة التي جبل عليها، فقد ولد حراً مبرءاً من الخطيئة أو المعصية، وتظل هذه الحقيقة ملازمة له على امتداد مراحل حياته، باعتبار أن أصل البراءة مازال كامناً فيه، مصاحباً لما يأتيه من أفعال، إلى أن يأتي فعلاً أو يسلك سلوكاً، قرر المجتمع، طبقا لضرورة اجتماعية أو أمنية أو اقتصادية، ومن خلال قانون أقرته السلطة التشريعية، أنه من الأفعال التي لا يجوز التسامح مع مرتكبها جزائيا، أو أنه يتعارض مع المصالح الحيوية للجماعة.ولا جدال في أن فتح باب المناقشة العامة على مصراعيه في الشؤون العامة، وحق الاقتراح والنصيحة والتنبيه والانتقاد والتحذير، هو من الوسائل المشروعة في تقويم أي إعوجاج وفي الكشف عن عناصر الخلل في ممارسة أي سلطة من السلطات لصلاحياتها الدستورية، بل هي مسؤولية كل مواطن، فليس هناك في نظام ديمقراطي مَن يطلب التستر على خطأ أو انحراف، بل إن مقدرة هذا النظام ومفخرته هما الصراحة والشجاعة في الاعتراف بالخطأ والعمل على إصلاحه وتلافيه.ولا تتمتع السلطة التشريعية بحصانة تمنع نقدها، وليس لها إلا أن تطلب من الصحافة النصفة وحسن الإدراك والإلمام بالمشاكل جميعها التي تواجهها، فهي الحارس الأمين للمبدأ الديمقراطي الذي يسمح حتى لمعارضيه أن يوجهوا إليه سهام نقدهم تعبيراً عن حرية الرأي التي يكفلها هذا المبدأ حتى لخصومه، بما لا يجوز معه الضجر من مطالبة بحل البرلمان، سواء كان حلاً دستوريا، أو غير دستورى، لأن الحل مرهون في نهاية الأمر بإرادة صاحب السمو الأمير، وبتطبيق أحكام المادة (107) من الدستور كاملة، بينما تقضي به من حق مجلس الأمة في استرداد كامل سلطاته الدستورية، إذا لم تجرَ الانتخابات للمجلس الجديد في الميعاد الذي حدده الدستور لاجرائها، وهو ستون يوماً من تاريخ الحل.بما لا يجوز معه أن ينزلق التشريع الجزائي كما قررت المحكمة الدستورية في الكويت، لكي تكون نصوصه شباكاً أو شراكاً يلقيها القانون متصيداً باتساعها من يقعون تحتها... (الحكم الصادر بجلسة 1/5/2006 في الطعن رقم 1 لسنة 2005).
مقالات
ما قل ودل: تجريم الدعوة إلى حل مجلس الأمة 2- 2
04-08-2008