فلسطين بين فكي الأصولية الإسلامية واليهودية
الأصولية العربية الإسلامية، والأصولية اليهودية الصهيونية هما اللتان تتنازعان على فلسطين، وكل واحدة ترى أحقية ملكيتها في فلسطين بحججها التاريخية والدينية، وبذا، فإن القضية الفلسطينية لن تُحل على هذا المستوى، ويمكن أن تبقى هذه القضية عالقة هكذا قرناً آخر أو قرونا أخرى.-1-
ليست الأصولية قاصرة فقط على الدين الإسلامي، ولا الأصوليون قاصرين على المسلمين فقط، ففي الديانة اليهودية، هناك أصولية متزمتة جداً، تُسمى طائفة «السكناج». والأصولية اليهودية هي الأكثر تطرفاً بين جميع الأصوليات الدينية في التاريخ، ولها دور سياسي كبير في إسرائيل وخارجها. وهي التي اغتالت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، ونستطيع أن نقول إنهم الأكثرية في المجتمع الإسرائيلي، إذ لا يشكل العلمانيون أكثر من 25-30% من عدد اليهود بينما يشكل التقليديون 50- 55% ويشكل المتدينون 20%، وقد تتبع الباحثان شاحاك ونورتون متسفينسكي جذور الأصولية اليهودية في كتابهما «الأصولية اليهودية في إسرائيل»، واعتبر هذان الباحثان أن الأصولية اليهودية، هي أكثر الاتجاهات تأثيراً وخطورة في إسرائيل، وأن هذه القضية تُعتبر من أكثر القضايا خطورة في إسرائيل. -2-ويقرُّ هذان المؤلفان أن الأصولية في كل الأديان، ترغب في العودة بالمجتمع إلى الأزمنة القديمة الطيبة، الخالية من الشرور والآثام الحديثة، وهؤلاء الأصوليون يتشددون في السياسة، كما يتشددون في الدين، فهم- على سبيل المثال لا الحصر- يعتبرون المستوطنات قلاعاً للإيديولوجية اليهودية، ويمكن أن تكون نواة للمجتمع الإسرائيلي، الذي يرغب القادة الأصوليون في بنائه في الضفة الغربية. وتؤيد الأغلبية العظمى لأعضاء الكنيست هذا التوجه. ويعتبرون اتفاق أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية، كارثة حلّت بإسرائيل، وجعلت لزاماً عليهم أن يحاربوا بلا رحمة «الكيان الكنعاني الفلسطيني» الجديد، وهي النظرة نفسها من جانب الأصولية السياسية الإسلامية تجاه إسرائيل.-3-وترى كارين آرمسترونغ الراهبة السابقة، ومؤلفة كتابي «معارك في سبيل الإله والتاريخ المختصر للإسلام»، وكتاب «تاريخ الرب» الذي يعد واحداً من أفضل الكتب مبيعاً خلال السنوات الماضية، وهي واحدة من أنجح الباحثين في مجال نشأة الأصولية في الديانات الثلاث: الإسلام، والمسيحية، واليهودية. وتعد أبحاثها في هذا المجال مرجعاً رئيساً وأكاديمياً لا يُستهان به. وتقول آرمسترونغ، إن اليهود كانوا أول من أقبل على التطرف الديني، لأنهم عانوا أزمة عدم العدالة الاجتماعية، ووجدوا أن مدنية العصر الحديث هي السبب وراء اضطهادهم ومعاناتهم، فهم بكل ما يحملونه من خرافات دينية وأساطير، لم يعودوا مُقنعين لعقلية عصر العلم والتكنولوجيا. -4-اليوم- كما الأمس- تحكم القضية الفلسطينية أصوليتان: الأولى: إسلامية ممثلة بـ«حماس» وباقي الميليشيات الدينية الفلسطينية المسلحة، والتي لا تعترف بكل قرارات واتفاقيات المؤتمرات الدولية السابقة، الخاصة بالقضية الفلسطينية. والثانية: يهودية ممثلة بحزب «إسرائيل بيتنا» وبقيادة ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلية في حكومة نتنياهو الحالية، ويساند ليبرمان كل الأحزاب الدينية اليمينية اليهودية الأخرى. وليبرمان هو الذي ينكر، ما تنكره الأصولية الدينية/السياسية الفلسطينية.وهذه ليست المرة الأولى، التي تلتقي فيها الأصولية الإسلامية مع الأصولية اليهودية في إبقاء الوضع الفلسطيني-الإسرائيلي على حاله. فلا سلام ولا حرب، مع ازدياد قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية خلال هذا التعصب، فتاريخ القضية الفلسطينية منذ أكثر من ستين سنة، يشهد على أن الصراع الفلسطيني-اليهودي، والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بعد ذلك، قد تحوّل إلى صراع ديني وليس إلى صراع سياسي. فكلا الجانبين يدّعي أن فلسطين هي أرضه المقدسة، وهي أرضه الدينية التاريخية. وعندما تحوّل الصراع الفلسطيني-اليهودي من صراع سياسي إلى صراع ديني، أصبح من العسير جداً حلّ القضية الفلسطينية منذ ستين عاماً إلى الآن على أساس الدولتين المستقلتين: الإسرائيلية والفلسطينية.فكيف يمكن أن تُقام هاتان الدولتان، والأصولية الإسلامية تعادي الأصولية اليهودية عداء شديداً، وتأتي لها بالآيات القرآنية التي نزلت في المدينة، أيام خلاف الرسول عليه السلام مع اليهود، قبل حوالي 15 قرناً. وتغضّ النظر عن الآيات القرآنية التي نزلت في مكة قبل الهجرة، وتمتدح اليهود والنصارى كأهل كتاب، وتعتبر الأصولية الإسلامية الآن، أن ذلك الخلاف بين المسلمين واليهود في المدينة، مازال قائماً إلى الآن، ولم يتغيّر بتغير القضية، وناسها، وزمانها، ومكانها، بل إن هذا الخلاف، يُدرّس إلى الآن، في معظم المدارس العربية. كذلك، فإن عداء الأصولية اليهودية للعرب في الثقافة اليهودية لا يقل عن ذلك، وفي الكتب المدرسية اليهودية تصف الأصولية اليهودية العرب بأقبح الصفات.ففي دراسة أجريت على 380 كتاباً في المناهج التعليمية الإسرائيلية، أُلحِقت بالعرب المهن التالية: لصوص (42 كتاباً)، مخرّبون ( 36 كتاباً)، قنّاصون وقتلة (27 كتاباً)، مختطفو طائرات (31 كتاباً)، مغتصبو أملاك (41 كتاباً)، يحرقون الحقول والأشجار (17 كتاباً)، أعمال قاسية دون تحديد (181 كتاباً). وكما أثبت البروفيسور كوهين، في بحثه المنشور بالعبرية تحت عنوان: (أي وجه قبيح في المرآة)، أنه في تحليله لمضامين ألف كتاب عبري، تظهر صورة العربي في شكل قاتل، أو مُختطف للأطفال، وأن هذه الصورة مستقرة لدى 75 في المئة من أطفال المدارس الابتدائية الإسرائيلية. وفلسفة التعليم الصهيوني بُنيتْ أصلاً على تلقين التراث الديني اليهودي، وإفهام الطلاب أنّ الحضارة البشرية هي نتاج مشترك بجهود الشعب اليهودي. وقد عبرّ الكاتب اليهودي موشيه مينوحين عن الرّوح التي تبثّها المدارس اليهودية قائلاً: «منذ سنوات دراستنا الأولى، كنا نتلّقى يومياً خُطباً لا تنتهي عن واجباتنا المقدّسة نحو أمتنا، وبلادنا، وأرض آبائنا، وكانت قلوبنا الفتية تمتلئ بالقول، إنّ أرض آبائنا يجب أن تخلُص لنا نظيفة من الكفّار العرب، وإنّه يجب أن تسخّر حياتنا لخدمة أرض آبائنا، وللقتال من أجلها».ومن هنا يتضح لنا، أن الأصولية العربية الإسلامية، والأصولية اليهودية الصهيونية هما اللتان تتنازعان على فلسطين، وكل واحدة ترى أحقية ملكيتها في فلسطين بحججها التاريخية والدينية، وبذا، فإن القضية الفلسطينية لن تُحل على هذا المستوى، ويمكن أن تبقى هذه القضية عالقة هكذا قرناً آخر أو قرونا أخرى، في الوقت الذي يقوم فيه الجانب الأقوى (إسرائيل) بقضم الكعكة الفلسطينية، قضمةً بعد أخرى، ببناء المستعمرات المختلفة وبسرعة جنونية، لكي يضع الفلسطينيين والعرب والعالم أمام الأمر الواقع، كما يفعل في كل مرة خلال الستين عاماً الماضية، من عمر القضية.* كاتب أردني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء