Ad

لعل أسوأ ما في السياسة العربية أو الثقافة العربية أنها تأخذ من الشعراء شعاراتهم أو حكمهم أو بياناتهم... ويدرك من يتابع المهرجانات الجماهيرية ذلك بوضوح، فالخطباء يأخذون من المتنبي عبارة «على قدر أهل العزم» ويهتمون بـ «تَنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ» للأديب إبراهيم اليازجي دون سواه من إبداعات الكتاب الكثيرة، و{تسحرهم» عبارة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: {إذا الشعب يوماً أراد الحياة»... من قصيدة «إرادة الحياة».

في ذكرى ولادة الشابي المئوية، معظم النقّاد والكتّاب الذين أشاروا الى قصيدة «إرادة الحياة»، ألمحوا كثيراً الى أن المطربة ماجدة الرومي غنتها، وأننا سمعناها بصوت لطيفة التونسية، فقد باتت هذه القصيدة «أسطوانة» نسمعها بأصوات المغنين وفي المهرجانات الجماهيرية وعبر أثير إذاعة «النور» الحزب - إلهية، يرددها المذيع بصوت جهوري كأنه يقصف الكاتيوشا. والقصيدة نفسها أدرجها الرئيس زين العابدين بن علي في خاتمة نشيد تونس الرسمي.

لو عاش الشابي الى الآن كيف ستكون نظرته الى قصيدته المنتشرة هنا وهناك، من ضاحية بيروت الجنوبية الى العاصمة التونسية؟ ربما سيكون له موقف آخر تجاهها، لا ندري! ربما سيتخلى عنها أو يقع ضحية شهرتها. والنافل أن شهرة الشابي لم تتكرس إلا بعد وفاته شأنه في ذلك شأن مبدعين كبار كثيرين.

بعيداً عن معمعة معنى الحرية و{إرادة الحياة»، فهذا موضوع يحتاج الى قراءة الثقافة العربية بمجملها، يمكن لنا القول إن الشابي وبحسب الناقد الراحل رجاء النقاش يمثل «في المغرب العربي بذور الثورة الأولى، الثورة الرومنسية التي كان جبران خليل جبران أحد روادها الأوائل في المشرق العربي». وهو تعرّض إلى «التناتش» الثقافي كما جبران خليل جبران نفسه الذي ضاع القارئ من كثرة توظيفات أدبه اللبنانية والغربية. ولعل آخر ما قرأنا في موجة «التناتش» ما كتبه أحد الصحافيين التونسيين: «ظل الشاعر أبو القاسم الشابي دهراً طويلاً مختطفاً من العلمانيين، ومن خلال تقديمه كأحد رموزهم ورجالاتهم، والبعض، انطلاقاً من ذاك التقديم، عابوا على الشابي مخالفات عقائدية وتلفيقات دُست في ديوان «أغاني الحياة» لتنفير الإسلاميين منه، وجعله شاعراً حداثياً صرفاً، وهو ما يتعارض وثقافة الشابي، نشأته الدينية، ودراسته في الزيتونة، وشعره الخالي من الفحش الخلقي والأدبي». ومثل هذه الكتابات تريد «أسلمة» الشاعر، وإعطاءه لوناً مغايراً عن صورته المعهودة أو يريد الكاتب توظيفاً جديداً له.

الحب والأسى

المتابع لشعر الشابي يلاحظ أنه كان بعيداً عن «الأسلمة» و{العلمنة» في آن، كان يكتب ذاته وألمه وألم الآخرين، يصوّر الحب والأسى بعيداً عن الإيديولوجيا البائسة التي كانت سبباً في انحطاط كثير من الشعر العالمي. كان قلبه محور شعره، سواء في الحب أو الألم.

فقد الشابي والده باكراً، وحبيبته الأولى أيضاً، وصار كل شيء بالنسبة إليه يدور بين الحياة والموت... ينظر الى الموت لأنه يتأمل الحياة، يتأمل الحياة لأنه يعيش الألم، يكتب الأسى لأنه فقد الحب والحبيب، إنه شاعر الفردية والرومنسية الحزينة قبل أي شيء، قبل الكليشيهات والتوظيفات البائسة.

عاش الشابي وجدانيات حياته كلها، في نشأته وترحاله ووفاة أبيه، وتكفّله إعالة أسرته، ثم في مرضه المزمن. وبين الرومنطيقية والتفكك والنمطية تراوحت قصائد الشابي، ففي ديوانه الذي يحوي 98 قصيدة، بين مطولة وقصيرة، يدور معظم الأشعار حول الانكسار والكآبة، وحول اللجوء إلى الطبيعة لدحض الأسى الذي يعتري النفوس ويسيطر على القلوب. وإذا تأملنا في فهرس ديوانه تبيّن لنا ازدحامه بعناوين الألم والحزن، فمن بينها: «من وراء الظلام، خلّه الموت، في الظلام، مأتم الحب، الكآبة المجهولة، أيها الليل، شكوى اليتيم، السآمة، الدموع، أغنية الأحزان، المسافر الحزين، الكآبة المجهولة، نشيد الأسى، بقايا الخريف، في فجاج الآلام، إلى الموت، صوت، تائه، أغاني التائه، إلى قلبي التائه، يا موت، صفحة من كتاب الدموع، طريق الهاوية، شجون، أنا أبكيك للحب، رثاء فجر، حديث المقبرة، في ظل وادي الموت، الجنة الضائعة، الدنيا الميتة، شكوى ضائعة».

في الديوان تتردد أيضاً مصطلحات الموت والضياع والتيه والرثاء والظلام والخريف. وجعل الشاعر من قصيدة «نشيد الأسى» نشيداً وصوتاً صارخاً ليشدّد من خلاله على سوء حظّه:

ما للرياح تهب في الدنيا ويدركها اللغوب

إلا رياحي، فهي جامحة تمردها عصيب.

أشبع الشابي روحه من خلال شعره، وما قاله في النساء اللواتي نظر إليهن كمثل أعلى لا نستطيع حصره في امرأة بعينها:

أنتِ .. ما أنتِ؟ رسمٌ جَميلٌ عبقريٌّ من فنّ هذا الوجود

فيك ما فيه من غموضٍ وعمقٍ وجمالٍ مقدّسٍ معبود

أنتِ ما أنتِ؟ أنت فجرٌ من السحر تَجلّى لقلبِي المعمود

فأراه الحياةَ في مونق الحُسن وجلّى له خفايا الخلود

أنت روح الربيع تختال في الدنيا فتهتز رائعاتُ الورود

تهب الحياة سكرى من العطر ويدوّي الوجود بالتغريد

كلما أبصرتك عيناي تَمشين بخطو موقّع كالنشيد

خفق القلبُ للحياة ورفّ الزهرُ في حقل عمري الْمجرود

مات هذا الشاعر باكراً وكما شعراء كثيرون كان شعره جزءاً من موته، أو قتله شعره، أو شعره شاهد على موته. وكتب في إحدى يومياته بعد مروره في إحدى الضواحي: «ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم؟ لكن أنى لي ذلك والطبيب يحذر من ذلك لأن بقلبي ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية».

من خلال شعره يبدو الشابي وكأنه عاش صراعاً بين الحزن والسعادة، وبين الموت والحياة، وانتهى الصراع بتفضيل الموت الذي اعتبره الشاعر بداية حياة أخرى ملؤها السعادة والجمال المطلق، بعيدة تماماً عن الآلام والقبح الذي انتشر في حياة البشر، ويبدو ذلك في قوله:

أما إذا خمدت حياتي وانقضى

عمري وأخرست المنية نائي

فأنا السعيد بأنني متحوّل

عن عالم الآثام والبغضاء

لأذوب في فجر الحياة السرمدي

وأرتوي من منهل الأضواء

الشابي في سطور

ولد الشاعر أبو القاسم الشابي في بلدة الشابية، في جنوب تونس. فتشبعت عيناه بجمالها الطبيعي الفتان. كان أبوه قاضياً وشيخاً، فأخذ عنه أصول العربية والدين، ولما بلغ الحادية، أدخل إلى مدرسة دينية، وخلال سبعة أعوام تخرج شيخاً مثقفاً، ثم التحق بكلية الحقوق التونسية فنال إجازتها عام 1930. لكن الأدب في قلبه زحم الحقوق فمال إليه الشابي واتصل بجماعة من الأدباء والمفكرين، وراح ينظم الشعر ويكتب المقالات ويلقي المحاضرات، وكان شديد الإعجاب والتأثر بأدب الهجرة.

تأثر الشابي جداً بوفاة أبيه عام 1929، وتسلل المرض إلى قلبه فأسكته في عنفوان الشاب. له مجموعة واسعة من الآثار أبرزها ديوان «أغاني الحياة» ودراسة أدبية بعنوان «الخيال الشعري عند العرب».

وهو القائل: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر».