في لحظة يأس ولحظات إحباط، يرى كثيرون ألا سبيل لتغيير وضع يعانونه ظلما، إلا عن طريق الاجتثاث في الاتجاهين.

Ad

هم إما أنهم يفضلون انتزاع أنفسهم من المكان واللحظة حيث تنشأ المعاناة، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. أسباب كثيرة تدفع بهم إلى هذا الخيار: تجارب محبطة سابقة، تجاهل صوتهم ومصالحهم من قبل مراكز القوة والسلطة، النظرة المرتابة والمشككة من الآخرين إليهم إن حاولوا المقاومة والدفاع عن حقوقهم، سلبية المجتمع المحيط بهم، الخوف أو اللامبالاة. أيضا، ومع ذلك كله، قبله أو بعده أو مرافقا له، عدم إيمانهم بقدرتهم على التغيير، بغض النظر عما إذا كان حجمه صغيرا أو كبيرا، يتطلب جهدا محدودا أو واسعا.

وإما أنهم يتكيفون ظاهرا مع الوضع، وفي أعماقهم يتمنون اجتثاثه بقدرة قادر. قد يفكرون بالعنف وسيلة، بمعنى تفكيرهم بامتلاك قوة تتجاوز وتهزم تلك التي يمتلكها المتسبب أو المتسببون بالحال المشكو منها، أو يفكرون بطرف ثالث صاحب قوة مماثلة، يقوم بعملية الاجتثاث نيابة عنهم.

في الحالات جميعها يطغى الإحساس بالافتقار إلى تلك القوة الصاخبة ذات القدرة على مواجهة أوضاع لا تحتمل، سياسيا واقتصاديا ومعيشيا.

لا ينجو من هذا الشعور في كثير من الأحيان، حتى أولئك الذين نشطوا أو ينشطون ضمن جماعات اجتماعية وسياسية، وكثيرا ما تبدأ تلك الجماعات حراكا نشيطا صاخبا في ميدان معين، وينتهي بها الأمر بعد حين يقصر أو يطول إلى الفشل والتبعثر وتجديد الإحساس بالإحباط واللاجدوى. وفي تعدادهم لأسباب الفشل، لا يذكر أحدهم عادة بشكل مباشر، عدم إيمانهم بقدرتهم على إحداث التغيير المطلوب، لكن ذلك يمكن استنتاجه من مجمل الطريقة التي يجري بها وصف التجربة وحيثياتها ونتائجها.

لا يتناقض ذلك مع كون المضي في حراك معين هو في حد ذاته إيمان ضمني من القائمين عليه، بقدرتهم على تحقيق نتائجه، لأنه وببساطة، هذا لا يؤدي إلى ذلك. والبدء بحراك أو نشاط لا يعني أن جميع الأسئلة التي من الواجب الإجابة عنها، قد طرحت أصلا. بل تعني غالبا في مثل تجاربنا المفتقرة للخبرة والمحكومة بصعوبات شتى سياسية وثقافية، حماسا وعاطفة واغتناما للحظة معينة، أكثر من كونها فكرة مدروسة وقابلة للتحقيق.

الإيمان بالقدرة الذاتية والثقة بإمكان صنع تحول ما، هو شرط مسبق وأولي، لأنه وحده يقف سداً منيعاً ضد ما تولده العقبات والإحباطات من انكفاء وشلل، وهذا الإيمان يحتاج بطبيعة الحال إلى تعقل وواقعية، وعدوه الآخر بعد البخس من قدرة الذات على إحداث فرق، هو الأحلام التي تحلق بعيدا عن الواقع، ولسان الحال يقول، إما كل شيء وفي هذه اللحظة، أو لا شيء في أي وقت. منطق الاجتثاث السهل، الحلم السهل، الذي قد تتوافق ظروف معينة على تحقيقه في حالات نادرة، لكن في معظم الحالات الأخرى، يبقى شكلا عاجزا من أشكال الإيمان بالذات. أنا قادر، تقتضي السؤال، على ماذا وبأي وسائل؟

هذا الإيمان، من بين أشياء أخرى وربما في مقدمتها، من شأنه أن يساهم إلى حد بعيد في تحقيق الاستمرارية، التي توسع فرصة تحقيق نتائج إيجابية مهما كانت بعيدة عما كان مرجواً أو مخططاً له. ويؤمن الفرصة من أجل تراكم الخبرات والحفاظ على مجموعة التغيير من التفرق الأكيد لدى ظهور أول بوادر للفشل. ويضع حدا لتوالد التجارب متناسخة، لا تستفيد من أخطاء وميزات بعضها بعضا، ولا تشكل غير مراوحة في المكان وعودة في كل مرة إلى نقطة البداية.

وهذا الإيمان، من شأنه بما ينعكس على أداء أصحابه، بأن يغير من نظرة اللائمين والخائفين واللامبالين، وأولئك الذين يتسلحون بأضعفه، أي الإيمان. وهؤلاء لا يرون عادة إلا حماسا واحتفاء مبالغا بالذات وقدراتها في لحظة، وسكونا وانكسارا بغيضا في لحظة أخرى، وأفعالا هي في حقيقتها ردود أفعال. والأهم، هو حرمانهم من الجواب المحبب إليهم عن سؤال يجابهون به أصحاب الحراك والمتحمسين له. يسألون، وماذا استطعتم أن تفعلوا، ويجيب أولئك بخجل، ما قدرنا عليه، ولأن محصلة النشاط غالبا صفر أو حواليه، ما يعني أنهم غير قادرين على شيء.

هذا الإيمان أخيرا، يجعل من أي حراك جماعي، قائم على الثقة بالذات والآخر، وبالقدرات حين تجتمع وتقرر وتؤكد قدرتها، ولا تهمل أيا من عناصر العمل الناجح الأخرى، وتستفيد حتما من ظروف وعوامل خارجة عنها وداعمة لها هنا أو هناك، الآن أو غدا، لكنها في المحصلة، تبقي على الأهم، القاعدة التي يبنى عليها، تجعل منه الأساس والجوهر، الذي يبقى مع تقلب الظروف، وتغيير الموازين.

قوة موازية هي الإيمان، تشبه «القوة»، ولا تشبهها في شيء أبدا!

* كاتبة سورية