من تأسيس عبدالعزيز... إلى تأسيس عبدالله
لا يملك أي معنيّ بالشأن العربي والإسلامي إلا أن يقف أمام مغزى القرارات التي اتخذها الملك عبدالله بن عبدالعزيز بشأن تطوير بعض المؤسسات المهمة في المملكة العربية السعودية. وإذا كان بعض تلك القرارات يندرج ضمن «المعتاد السياسي» كتعديل مناصب وزارية وعسكرية وإعادة تشكيل «مجلس الشـورى»، فـإن قرارات أخرى يمكن اعتبارهـا ذات بُعد «إصلاحي وتاريخي»، وأبرزها:• تعيين سيدة مسؤولة عن تعليم البنات لأول مرة في تاريخ السعودية برتبة وزير في وزارة التربية والتعليم التي تولاها في الوقت ذاته وزير ذو ثقافة حديثة.
• إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى بمشاركة أوسع لمذاهب إسلامية في انفتاح فكري وفقهي إسلامي حان وقته، هذا مع الاهتمام بتطعيم الجهاز القضائي بإشراف وبعناصر شابة أقدر على سرعة الحركة والبت.• تكييف المؤسسة الدينية، متمثلة في هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ذات الصلاحيات والسلطات الواسعة، بتعيين مسؤولين أقرب إلى فهم طبيعة المتغيرات والمستجدات في المجتمع والعالم.وفي حقيقة الأمر، فعندما كتبنا في هذا الموضع- قبل أسبوعين- عن نهج القفزات العالية في السياسة السعودية الذي استنه الملك عبدالله بن عبدالعزيز لم نكن نتوقع صدور قرارات جديدة بهذه «القفزات العالية» في وقت قريب للغاية. ولكن مَن يتأمل في توقعات وتطلعات التطور والتغيير لدى الأجيال السعودية المختلفة، يدرك مدى الحاجة إلى صدورها في أقرب وقت.ويمكن لدى النظر في أي تطويرات جذرية مقاربتها من زاوية سياسية ومن زاوية تاريخية. والرؤية السياسية الآنية لها يمكن أن تتفاوت تقييماً وقبولاً. أما الرؤية التاريخية فلها معاييرها وتقييمها المختلفين.وقد تبدو التطويرات السعودية، بالنسبة لمجتمعات عربية أخرى، أتيح لها أن تمر بمسارات أخرى في التطور، تطويرات اعتيادية للغاية. لكنها حسب مواضعات المجتمع السعودي وواقعه، ليست كذلك. والمعول دائماً على مدى استعداد البيئة المجتمعية وتقبلها للتغيير والتطوير. ومن يعرف المجتمع السعودي معرفة قريبة وحميمة يدرك أنه يضم قوى وعناصر تواقة للتغيير والتطور وملحة عليه، وقوى وعناصر أخرى ترفضه وتقاومه بشدة, وتريد البقاء على قديمها الذي نشأت وتثقفت عليه. وأن هذه القوى المحافظة هي الأقدر على الاحتشاد والضغط والتأثير، بينما القوى التحديثية الأخرى- كمثيلاتها في العالمين العربي والإسلامي- لا تملك أسناناً سياسية!... لذلك فإن قرارات الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تستحق أن يُنظر إليها من زاوية مدى الدور الذي يمكن أن تضطلع به الدولة العربية في الوقت الحاضر في القيام بالنقلة التطويرية والإصلاحية التي لابد منها في حلقات التحرك الإنقاذي لتجاوز ترسبات الماضي الانحطاطي المعيق. (وهو غير الماضي الحضاري المجيد الذي توقف للأسف منذ قرون، ويتوهم كثيرون من العرب والمسلمين أنه مرشح للعودة، هكذا اعتباطياً وعشوائياً، وبحلول سحرية!).ولا يملك الراصد للتطورات- سياسةً وتاريخاً- وهو ينظر في مغزى القرارات التطويرية التي اتخذها الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلا أن يتذكر زمن التأسيس الأول للدولة المركزية في شبه الجزيرة العربية الذي أنجزه الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود والشجون والهموم التي واجهته وتصدى لها، ويمكن الرجوع إلى الباحث السعودي تركي الحمد في دراساته بشأن الوضع السابق للدولة في الجزيرة العربية، ومغزى إقامتها. كما رصدنا ذلك في كتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» – (إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص111).ولقد عدت هذه الأيام إلى شيء من تاريخ ذلك التأسيس ولفتني في خطاب الملك عبدالعزيز ثلاثة أمور:- الأول: حرصه على الانفتاح على المذاهب الإسلامية والحديث عن مؤسسيها بالتقدير والحب، وذلك في معرض نفيه لانحصار السعودية في بوتقة «المذهبية الوهابية» التي ينفي عنها كونها «مذهباً» مخالفاً لمذاهب المسلمين، ويتهم خصومها بتسميتها بذلك.والثاني: اهتمامه الشديد بتشجيع «مجلس الشورى» التاريخي- الذي كان قائماً في عهده- على ممارسة صلاحياته الشورية المقررة في مناقشة ميزانية الدولة ومشروعاتها وقراراتها وحرصه على افتتاحه في كل دوره بخطاب يلقيه بنفسه أو من ينوب عنه. وفي ذلك الوقت المبكر (الثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم).أما الأمر الثالث: فحثه كل مواطن سعودي لديه شـكوى- أياً كانت- على التقدم بها إليه مباشرة، حتى لو كانت شكوى على أقرب المقربين في السلطة، مع تبيانه في بيانات بارزة منه لآليات توصيلها وعدم اطلاع أي مسؤول عليها (يراجع كتاب «المصحف والسيف»، جمع وإعداد: محيي الدين القابسي)- هذا بالإضافة إلى الاهتمام اللافت لدى الملك عبدالعزيز بشرح تطورات مختلف الأحداث للرأي العام العربي والإسلامي بما يكشف عن فهمه الفطري المتقدم لأهمية تأسيس الدولة المركزية الحديثة، والدفاع عنها، وخطورة الإعلام السياسي وأهميته البالغة في الوصول إلى عقليات الناس في مجتمعه والمجتمعات الأخرى.ويستغرب القارئ لتاريخ الملك عبدالعزيز كيف أن قوى المحافظة استطاعت التأثير وتحويل مجرى الأحداث بعد غيابه وجهةً مختلفة، وذلك ما يجعل لقرارات الملك عبدالله التطويرية أهمية تاريخية في إعادة المجرى إلى نبعه الأول مع الأخذ في الاعتبار متغيرات الزمن ومستجداته.والواقع أنه لابد من نهج «التطور»... أي نهج الإصلاح المتدرج- أحببنا هذه الكلمة أم لم نحبها!- فالجمود انتحار تاريخي لا يمكن للأمم التي تود البقاء الاستمرار فيه. كمـا أن «الطفرات الراديكالية» جرَّبها عالمنا العربي ورأى محاذيرها ومخاطرها. فلابد- إذن- من نهج «التطور» الذي علينا أن نفهم أنه ضرورة تاريخية لا مفر منها.ومن المؤسف أن «مدرسة التطور»- بأدبياتها وأفكارها- وما تتضمنه من ضرورة تطوير النظم والحياة ككل لم نأخذ منها كعرب ومسلمين إلا أضعف عناوينها وهي «الفرضية» التي لم تثبت علمياً بأن «الإنسان أصله قرد!» فخسرنا فكر التطور كله تحت تأثير الوهم المضحك (وشر البلية ما يضحك) باختصار «التطور» في تلك الفرضية المنفِّرة!وفاتنا أن تعاقب الأديان السماوية، نبياً بعد نبي، ورسولاً بعد آخر بمنزلة «تطور» أراده الله للبشر. وأن حديث القرآن الكريم عن الأحوال التي يتدرج فيها «الجنين» إلى أن يكتمل هي حلقات «تطور» جديرة بالتأمل... والتأمل الصحيح لمغزاها ومعناها!ومن محاسن المصادفات أن قرارات الملك عبدالله التطويرية صدرت يوم احتفال البحرين بذكرى «ميثاق العمل الوطني» في الرابع عشر من شهر فبراير الجاري. وكان ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، عندما يُسأل، عن موقف الجارة الكبرى القريبة، المملكة العربية السعودية، من الإصلاحات في البحرين يجيب «في ملمح ينم عن مدى القرب المتميز بين البلدين»: «إننا في هذه المنطقة على نهج الملك «المصلح» عبدالعزيز... لا أكثر... ولا أقل!».ويبقى أن أحداثاً كبيرة وقريبة قد تمر بالمنطقة العربية، وتلهي الناس عن تطورات السعودية التي تمثلت في قرارات الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولكن التاريخ، ومعه المجتمع السعودي المعني بها، سيحكمان في النهاية على جدواها. وهي في تقديرنا لها ما بعدها... حيث لا يمكن أن يتوقف تطور الحياة الذي هو نبضها وتنفسها من أجل الحياة.* مفكر من البحرين