ليس بين الصين والولايات المتحدة، ولا بينها وبين سوى هذه الأخيرة من القوى، من توتر ماثل راهن، مندرج في الحياة الدولية يغذيها ويتغذى منها، يسمم أجواءها ويشغل الرأي العام. أسباب مثل ذلك التوتر قائمة كثيرة، من جزيرة تايوان التي تعتبرها الصين القارية جزءا منها لا يتجزأ، كيانا آبقا لا يدين باستمراره دولة مستقلة إلا لما يلقاه من دعم، غير مشروط أو يكاد، من واشنطن، إلى الانتشار الاستراتيجي الأميركي في آسيا الوسطى والذي بلغ، منذ التدخل في أفغانستان، الحدود الصينية، إلى قضايا أخرى كثيرة، تتعلق بالاقتصاد وسباق التسلح النووي وما إليها.
ولكن الصين، العملاق الصاعد، تتوخى على ما يبدو، في كل ذلك، وفيما عداه، استراتيجية يمكن وصفها «باستراتيجية التفادي»، فهي تتفادى كل توتير أو صدام، أو هي على الأقل لا تُقبل عليه ولا تبادر به، أو هي لا تفعل، وبشكل محسوب ومتحكم فيه، إلا متى ما دعتها مصلحة آنية، شرط أن تكون عليا، إلى ذلك. فهي مثلا دعمت وتدعم نظام الرئيس عمر البشير في السودان، هاجسها في ذلك الحاجة إلى مصادر الطاقة والتغلغل كقوة مُؤثرة في القارة الإفريقية، ولكنها لم تبلغ في دعمها ذاك مبلغ المجابهة مع المعسكر الغربي. غير أن المثال الأجلى على ذلك المسلك الصيني، إنما يتبدى في عزوف بكين عن التدخل في الملف الشرق أوسطي، مع ما تكابده من ظمأٍ أكيد إلى نفط تلك المنطقة، كأنما سلّمت للولايات المتحدة بأحادية النفوذ عليها وفيها، فلا تُسائل ذلك النفوذ ولا تُجادل فيه.الفارق جلي في ذلك الصدد بين الصين وروسيا على سبيل المثال، وهو فارق ربما عاد إلى أن الأولى أفلحت، وهي القوة الشيوعية، في تجنب الاندراج ضمن مهزومي الحرب الباردة، بل كانت، بوجه من الوجوه، من المنتصرين فيها، حافظت على مجالها الحيوي، وانخرطت في اقتصاد السوق وحققت في ذلك النجاح الذي نعلم وأضحت من القوى التي تتصدر العولمة لا من ضحاياها.ومع أن مسلك الصين على ما وصفنا، فإنها ليست بالقوة العظمى المستقيلة من الاضطلاع بدورها كقوة عظمى. كل ما في الأمر، وما يمثل تمايز التجربة الصينية ويدعو تاليا إلى التوقف عندها، أن «إمبراطورية الوسط»، على ما كانت تتسمى تقليديا، تتوخى استراتيجيةَ قوةٍ شاخصة على نحو حصري أو يكاد نحو المستقبل، فلا تعبأ بمنافسات الحاضر إلا في حدود ما لا سبيل إلى تفاديه من الحَدَب على مصالح ملحّة آنية، أو في حدود ما تمليه متطلبات التهيئة والإعداد والاستعداد إلى ذلك التوق المستقبلي.تلك مفارقة أولى، إذ إن الصين أقدم كيانات العالم، استمرارا جغرافيا وتاريخيا وحضاريا لم ينقطع منذ سبعة آلاف سنة، وهو ما لم يقيّض لكيان سواها في التاريخ البشري. كتب أحد المؤرخين مرة، من باب تقريب تلك الفرادة الصينية للإدراك وللأفهام يقول، مشبها بما لم يتحقق: «كما لو أن الحضارة الفرعونية القديمة تمادت إلى يومنا هذا حيّة ماثلة فاعلة». غير أن العراقة تلك، وهي هنا وفي هذه الحالة، تكتسب معناها الأكمل والأتم، لم تستو عامل شدّ إلى الوراء، ولم تحل دون اندراجها في المستقبل، على نحو ما هي فاعلة في فضاءات تاريخية أخرى، وذلك ما قد يمثل آية تمايز الصين قياسا إلى ما عداها من القوى الكبرى الناجزة أو الصاعدة والمحتملة.ربما أفضى بنا ذلك إلى استنتاج أول مفاده أن الصين إن نافست الولايات في أمر، فليس في أدائها الاقتصادي، الذي لايزال، على نموه الاستثنائي، دون اقتصاد منافستها بأشواط، ولا في إبداعها التكنولوجي، الذي لايزال، بالمقارنة جنينيا، ولا في تظاهرات مشهدية، شأن تنظيم الأولمبياد الأخيرة، لايزال قصب السبق فيها، بالرغم من كل شيء، من نصيب الصناعة الهوليوودية، ولا في ما عدا ذلك مما قد يمثل معايير القوة ومقاييسها، بل في أن الصين قد تكون انتزعت من الولايات المتحدة سمة كانت ملازمة لها حكرا عليها، منذ أن قامت تجاوزا للقارة القديمة، هي المتمثلة في سمة «القوة المستقبلية».والأمثلة على ذلك التوجه المستقبلي الصيني كثيرة. خذ مثلا صناعة الفضاء، تلك التي توليها الدولة الصينية اهتماما استثنائيا بقدر ما هو منهجي، تكلل بنجاحها الأخير في إطلاق رحلة مأهولة إلى الفضاء الخارجي، كما في ما تزمعه من سعي إلى «غزو» القمر والإعداد لضرب من إقامة دائمة على أديمه. يندرج ذلك بداهة ضمن استراتيجية تهدف إلى احتلال منزلة القوة الفضائية الثالثة، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، أي إلى تهيئة شروط الانضواء ضمن «ناد فضائي»، مدعو لا محالة إلى الحلول محل «النادي النووي»، ذلك الذي كان الانتماء إليه، حتى قبل عقود قليلة مضت، عنوان الانتماء إلى صفوة القوى الكبرى في العالم، المنفردة بالسطوة والمتميزة بصفتها تلك عن سواد دول العالم، على ما تدل تركيبة مجلس الأمن، وهذه ما عادت أكثر من راسب من رواسب حقبة الحرب الباردة، بعد أن استشرى ذلك النوع من الأسلحة، وأضحى في متناول دول من مصاف كوريا الشمالية وباكستان وإيران، بل تاقت إلى امتلاكه حتى ليبيا.* كاتب تونسي
مقالات
النادي الفضائي
07-10-2008