البحرين و الوطن الأم !
لا يستطيع المرء إلاّ أن يقف حائراً أمام الدعوات المتكررة، المعلنة والمستترة، التي تظهر حيناً وتختفي حيناً آخر، والتي تصدر من أعلى القيادات الرسمية الإيرانية، بادعاء « عائدية» البحرين إلى إيران. وهذه الدعوات وإنْ وجدت اعترضاً من وزارة الخارجية ومن قيادات إيرانية، إلآّ أن التكذيب في كل مرة يأتي وكأنه تأكيد أكثر منه نفيا، بل إبقاء على استمرار الإشكالية وتعقيداتها، لاسيما في ظل تجددها رغم تقادمها زمنياً، الأمر الذي ينبغي التعاطي معه لا باعتباره شطحات لبعض المسؤولين الإيرانيين أو مجرد أطماع في مخيلة البعض، بل بوصفه جزءاً من العقل الباطني «الجمعي»، إذا أردنا الاستعانة بعلم النفس الذي يتم التعبير عنه بوسائل لا تتفق مع مبادئ العلاقات الدولية وبما يتعارض مع قواعد القانون الدولي المعاصر، وقد يُراد منها معرفة ردود الفعل البحرينية والعربية والدولية، بخصوص استمرار هذه الدعاوى وصدور بعض التصريحات بين حين وآخر.وكان داريوش قنبري قد ادعى أمام مجلس الشورى الإيراني ووسائل الإعلام العالمية بأن البحرين كانت قبل 40 عاماً جزءاً من الأراضي الإيرانية وانفصلت عنها عن طريق استفتاء «مشبوه»، وإذا ما أجري استفتاء نزيه فإن شعبها سيصوّت للانضمام إلى الوطن الأم «إيران». ولعل مثل هذه التصريحات كان يمكن إهمالها لولا أن علي أكبر ناطق نوري المفتش العام في مكتب مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، كان قد اعتبر أن ضمان الأمم المتحدة سيادتها غير قائم، الأمر الذي يقترب في لغة السياسة الدولية إلى اللعب بالنار، وفي لغة القانون الدولي تجاوزاً على السيادة أو انتقاصاً منها، لاسيما بإعلان نوايا بأطماع قائمة أو مستمرة قد تتحول إلى فعل إذا ما أتيحت لها الفرصة.
ورغم أن السفير حسين أمير عبد اللهيان (سفير إيران في المنامة) بادر إلى التصريح أن بلاده تريد تطوير العلاقات مع البحرين ولا تقبل تصريحات نوري، فإن مثل هذه التصريحات لم تكن الأولى وليست الأخيرة، وكان هناك من يصرّح من داخل المؤسسة الحاكمة بأن البحرين هي المحافظة الرابعة عشرة، وقد سبق لحسين شريعتمداري مستشار مرشد الثورة الإسلامية قد ادعى في عدد من المقالات والتصريحات في صحيفة كيهان الإيرانية في وقت سابق أن البحرين جزء من إيران وأنها اقتطعت من الجسد الإيراني، وأن الشعب البحريني يطالب بإعادة البحرين لتكون جزءًا من إيران.وإذا كان مفهوماً ادعاء نظام شاه إيران بعائدية البحرين وأطماعه التوسعية المعروفة بشأن الخليج وإصراره على تسميته بالخليج الفارسي وقضمه الجزر العربية الثلاث منذ العام 1971 العائدة لدولة الإمارات العربية (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) وتكرار محاولات «اختراق» الخليج العربي والتدخل بالشؤون الداخلية العراقية، والاستمرار في ادعاء «أحقيته» في البحرين إلاّ أنه من غير المفهوم بل المستغرب أن تستمر إيران بعد الثورة الإسلامية في ذات المطالبات والسياسات، التي زادها تطرفاً الوجهة الآيديولوجية المذهبية.ورغم أن العالم اعترف بدولة البحرين «المستقلة» وأصبح لها دستور منذ العام 1973، وتحوّلت لاحقاً إلى مملكة في ظل ملكها حمد بن عيس آل خليفة وأجرت إصلاحات إيجابية وانفتاح على حرية التعبير، لاسيما في العقد الأخير، إلاّ أن مطامع إيران ومطالبة بعض ساستها كانت تنفلت بين الفينة والفينة حتى بعد الثورة الإسلامية، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة حول مجمل سياسة طهران رغم عدائها للإمبريالية وقطع علاقاتها مع إسرائيل، لكن استراتيجيتها القومية والعقائدية من جهة أخرى ازدادت تشدداً، وارتفع منسوب إملاءاتها ومحدداتها، لاسيما من خلال سعيها لتصدير الثورة ومدّ نفوذها إلى دول الجوار، وذلك بانفلات مطامحها الآيديولوجية القومية والمذهبية دون ضوابط أو موانع تحول دون التعبير عن رغباتها الاستعلائية.هكذا جاءت التصريحات الإيرانية الاستفزازية، بشأن البحرين، خارج نطاق الدبلوماسية والعلاقات الدولية والبروتوكولية، ولعل قراءتها من هذه الزاوية الاستراتيجية يندرج في إطار السياسة الإقليمية النافذة التي حاولت طهران فرضها بالأمر الواقع على دول الجوار خصوصا دول الخليج، رغم كوابح الوضع الدولي، لاسيما علاقات بعض دول الخليج الوطيدة ومنها البحرين مع الولايات المتحدة. ولعل التصريحات الإيرانية هي إعلان صريح وواضح، بل صارخ عن أطماع ولّى زمانها، الأمر الذي لقي ردود فعل شديدة على المستويين الدولي والعربي، ورغم الإدانة العربية الرسمية خصوصاً من جانب مصر والمملكة العربية السعودية والكويت وجامعة الدول العربية، إلآّ أن الإدانة لوحدها غير كافية، لاسيما إذا لم تتبعها إجراءات عربية جماعية ومؤثرة بحيث تتخذ أولا وقبل كل شيء خطة طويلة الأمد سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، لا تتعلق بردود الفعل وبأوضاع الحاضر، بل بأوضاع المستقبل وبمصالح شعوب ودول المنطقة، تبدأ من تقديم طلب رسمي عربي إلى إيران بإصدار إعلان صريح باحترام سيادة واستقلال البحرين كعضو في الأمم المتحدة، وفي جامعة الدول العربية وجزء من الأسرة العربية. والثانية تتعلق بدور المجتمع الدولي، لاسيما الأمم المتحدة، التي عليها مطالبة إيران بالتعهد باحترام سيادة البحرين، مثلما تتعهد هي بحماية استقلال البحرين وسيادتها إزاء أي انتهاكات تتعرض لها. أما الثالثة فتتعلق بمواقف بعض البلدان والقوى العربية الحليفة لإيران، التي عليها أن تمارس ضغطاً مستقلاً لحمل إيران على تقديم تعهدات بعدم تكرار ذلك، لأنه سيؤدي إلى تعكير صفو العلاقات ويوتّر الأجواء ويُبعد الأهداف المشتركة لشعوب ودول المنطقة الهادفة إلى التحرر من ربقة الهيمنة الأجنبية واعتماد التنمية طريقاً مستقلاً وإجراء إصلاحات ديمقراطية من شأنها تعزيز رفاه وسلم المنطقة وضمان مستقبلها وإقامة علاقات حسن جوار بين شعوبها ودولها بما فيه مصلحتها المشتركة.وللأسف الشديد فإن بعض المسؤولين الإيرانيين كانوا يرددون أن البحرين هي المحافظة الرابعة عشرة لإيران دون أن يتعظوا بمحاولات مدّ النفوذ السياسي والعسكري أو لجم مظاهر الشعور بالقوة، وهي المظاهر ذاتها التي سادت سوءاً أيام الشاه أو في ظل النظام العراقي السابق، الذي اعتبر دولة الكويت المستقلة هي «محافظة كاظمة» وهي المحافظة التاسعة عشرة العراقية، التي كانت تتويجاً لاجتياح الكويت، وما تبعه من غزو وحصار واحتلال وهدر لأموال وطاقات شعوب المنطقة سواءً للعراق أو الكويت أو لعموم دول المنطقة، كما ساهمت في تعميق وتعزيز النفوذ الأجنبي العسكري والسياسي، وفرض الهيمنة عليها وإخضاع مواردها وطاقاتها للمصالح الدولية الكبرى.ولا شك أن هذه التصريحات وما يقف خلفها من خطط استراتيجية راهنة ومستقبلية تلحق ضرراً بليغاً بحاضر ومستقبل العلاقات العربية-الإيرانية وتضعف إلى حدود كبيرة مصالح النضال المشترك، وتؤجج مشاعر الريبة والكراهية، التي زادتها الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) من جهة، ومحاولات تصدير الثورة الإيرانية من جهة أخرى، وإذا كان النظام العراقي السابق هو «المبادر» في شن الحرب، فإن إيران واصلتها وأصرّت على استمرارها، ورفضت جميع المحاولات الدولية لوقفها، ولعل الشروط التي وضعتها لوقف الحرب كانت أقرب إلى الإملاءات السياسية والحصول على المكاسب منها إلى علاقات سلمية وطبيعية بين بلدين جارين، ونتذكر تصريحات السفير الإيراني في موسكو موكري (رغم كونها غير رسمية) بشأن وضع مدينة البصرة تحت السيادة الإيرانية المؤقتة واستفتاء أكراد العراق بالانفصال أو الانضمام إلى إيران والمطالبة بدفع تعويضات وصلت في حينها إلى 150 مليار دولار، فضلاً عن إقامة نظام إسلامي في العراق، ولعله كان يقصد نظاماً على الطريقة الإيرانية.يخطئ بعض المسؤولين الإيرانيين مرتين: الأولى عندما يبررون بأن الشيعة يشكلون 70% من السكان الأصليين في البحرين وتُنسب أصولهم إلى الأمة الفارسية، والثانية عندما يقولون إن ولاءهم لإيران، ولعل في ذلك إجحافاً مرتين أيضاً: الأولى لأن الطائفة الشيعية كطائفة مثل سائر الطوائف والمذاهب الإسلامية نشأت وتطورت في الحضن العربي، ولغة القرآن عربية والنبي محمد وأئمته من العرب، ناهيكم عن أن الإسلام لا يفرق بين العربي والأعجمي إلا بالتّقوى... والثانية لأن شيعة البحرين مثل شيعة العراق ومثل شيعة لبنان، بل سائر الشيعة في العالمين العربي والإسلامي، فإن ولاءهم الأول والأخير لأوطانهم وبلدانهم وأمتهم العربية وليس لأي جهة أخرى، وهم مثلهم مثل غيرهم ينقسمون لاعتبارات سياسية واجتماعية وفكرية، ويتوزّعون على قوى سياسية متنوعة ومختلفة. وبهذه المناسبة يمكن أن نتذكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكتابه «الوصايا» حين دعا الشيعة للتمسك بمبادئ المواطنة والمساواة والاندماج بمجتمعاتهم وبلدانهم وشعوبهم، فذلك هو الانتماء الحقيقي لآل البيت.إن الأطروحات والتصريحات الإيرانية حتى إن تم نفيها من جانب وزارة الخارجية الإيرانية، فإنها تثير هواجس وشكوكاً بشأن مستقبل العلاقات العربية-الإيرانية، خصوصاً تكرارها، فإيران كدولة إقليمية كبرى في المنطقة وترتبط مع العالمين العربي والإسلامي بوشائج كثيرة وأهداف مشتركة، يمكنها أن تكون صديقاً محتملاً للأمة العربية، وليس عدواً قائماً مثلما كانت أيام الشاه أو بؤرة توتر تتدخل بالشؤون الداخلية للعالم العربي بمبررات واهية، فاحترام سياسة حسن الجوار والمصالح المشتركة وقواعد القانون الدولي كلّها يمكن أن تسهم في تعزيز وتطوير المشترك الإنساني وعوامل التقارب الديني والمجتمعي والتاريخي!!* باحث ومفكر عربي