Ad

استقر في يقيني ميل جارف إلى ضرورة أن يقفز الأكاديميون خارج أسوار جامعاتهم، وليقتصر قراء دراساتهم وأطروحاتهم المصوغة بلغة بحثية جافة على أعضاء لجان الترقي، وحاضري «السيمينارات» العلمية، ومناقشي الرسائل الجامعية.

في المقال السابق سردت من دون إسهاب أسباباً أربعة تحتم على الأكاديميين أن يفروا بعلمهم خارج أسوار الجامعة، ليستفيد منه الناس، ولا يُحبس في المدرجات المكتظة بطلاب مستعجلين، لا يهم الأغلبية الكاسحة منهم سوى تحصيل سريع يساعدهم على اجتياز الامتحانات وحيازة الشهادات الدراسية، سعيا وراء العمل أو التباهي.

والسبب الخامس في نظري هو أن العلم يجب أن يروم التغيير وإلا تحول إلى سفسطة فارغة أو قلائد للزينة. وقد يقول قائل إن هذا التغيير قد يكمن في صناعة التلاميذ بالمدارس والجامعات، وأن هذا يكفي في حد ذاته، ومن ثم لا حاجة إلى مد الأكاديميين أنوفهم خارج نطاق علمهم الأصلي. لكن هذه رؤية قاصرة لا تتصل بالواقع المعيش على أي حال من الأحوال. فالثابت أن أغلب تلاميذ العلم وطلابه تنقطع صلتهم بالدراسات الأكاديمية الصرف فور تخرجهم، إذ تأخذهم الحياة في دواماتها التي لا تنتهي، حيث العمل والأسرة والأصحاب وأوقات الترفيه، وبعض هؤلاء، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، إن اتصلوا بعالم الكتب فإن اتصالهم ينصب على الكتب الثقافية والعلمية المبسطة. ومن هنا فإن صياغة الدراسات الأكاديمية بلغة جذابة وأخاذة ومفهومة يساعد في اتساع رقعة من تربطهم صلات متينة بعالم الأفكار والمعلومات، وبالتالي يكبر حجم الكتلة الحية في الأمة، التي تنتجها تنمية إنسانية يقظة ودائمة. فضلا عن هذا، فإن ذلك التبسط غير المخل بشروط العلم وكفاءته يسهم في إضافة مجموعات جديدة ممن تمكنوا من محو أميتهم إلى هذه الكتلة التي تؤمن بأن المعرفة سلطة وقوة، ليس للفرد فحسب، بل للمجتمع بأسره.

والسبب السادس، أنه لا يوجد حسم في العلم الإنساني بشتى فروعه، وهذه مسّلمة يقتنع بها الجميع، ومادام هذا الحسم غير موجود فإن الاحتجاج بضرورة جفاف اللغة وجفائها بدعوى الحفاظ على التقاليد الأكاديمية الصارمة، والتي يحتاج إليها السعي إلى الوصول إلى نتائج دقيقة، لا يقف على قدمين صلبتين. فالعلوم التطبيقية أو البحتة نفسها تشهد تطورا هي الأخرى، ونظرياتها التي يعتقد كثيرون أنها راسخة كالجبال الرواسي يأتي من يهزها من جذورها ويضيف إليها أو يسقطها. فنظريات اسحق نيوتن هزها ألبرت أينشتاين بنظرية النسبية، ونحن نعيش اليوم مرحلة ما بعد أينشتاين، إذ تتم مراجعة بعض مقولاته ومعادلاته.

والسبب السابع، هو وجود أكاديميين كثر من ضعاف القدرات وقليلي الموهبة. ومثل هؤلاء يكتبون بلغة غير مفهومة لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون جيدا القضايا التي يكتبون عنها، ولا يلمون إلماما دقيقا بالتخصصات التي ينصرف إليها تعلمهم واشتغالهم. ومن المعروف أن من لا يفهم ليس بوسعه أن يُفهّم، وأن من يتبحر في علم ما أو تخصص معين يستطيع أن يعبر عنه بطريقة مفهومة تماما، وبلغة سهلة ومختصرة، فكما قال النفري: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». علاوة على هذا فإن بعض الأكاديميين يلجأون إلى ترجمة دراسات وأبحاث ونصوص مكتوبة بلغات أجنبية من دون أن يفهموها على الوجه الأكمل، ومن ثم تأتي لغتهم ملتوية وغير منبسطة ومفككة، تبدو في بعض المواضع كأنها نوع من الهذيان.

أما السبب الثامن، فيتعلق بخطورة أن تترك ساحات ومساحات القراءة والاطلاع خارج الجامعة لكثير من الكتابات الهابطة والمبتذلة التي تبشر بالفوضى والخواء أو تعتمد على الغرائز، أو تتصف بالخطابة والإنشائية، وتخاصم المنهج العلمي في التفكير. فمثل هذا المنتج المعرفي قد يحتشد بالمعلومات المغلوطة، والأخطر من هذا، فإنه قد يعتمد على طرق تفكير معوجة أو غير علمية. وهذا الوضع يؤدي إلى زيادة تشوه العقل الجمعي للأمة، ولا يساعد الناس في أن يتعاملوا بطريقة ناجعة مع المشكلات الحياتية، سواء هذه التي تعترض طريقهم كأفراد، أو تلك التي تعوق تقدم المجتمع برمته. وحرص الأكاديميين الثقات على أن يدفعوا بإنتاجهم العلمي إلى خارج أسوار الجامعة سيساعد، من دون شك، في حصار هذه الكتابات العشوائية، ومن ثم يحمي المواطنين منها.

والسبب التاسع، هو أن اشتباك الأكاديميين مع المجتمع يشجعهم على الإنتاج المعرفي الغزير، لاسيما في جامعاتنا التي يتوقف جهد أغلب أساتذتها عند حدود تقديم أبحاث الترقي، وتصبح أطروحاتهم للدكتوراه هي أكبر وأهم بحوث علمية في حياتهم. فالخروج إلى فضاء المجتمع الرحيب يمنح هؤلاء الأساتذة شهرة ومكانة وقد يدر عليهم عائدا ماديا يساهم في بناء استقلالهم واستقامتهم العلمية، التي كثيرا ما يجرحها العوز والاحتياج إلى ما في يد السلطة من منافع وعطايا.

لكل هذا استقر في يقيني ميل جارف إلى ضرورة أن يقفز الأكاديميون خارج أسوار جامعاتهم، وليقتصر قراء دراساتهم وأطروحاتهم المصوغة بلغة بحثية جافة على أعضاء لجان الترقي، وحاضري «السيمينارات» العلمية، ومناقشي الرسائل الجامعية.

* كاتب وباحث مصري