حديقة الإنسان: تُرام بجنيهين !

نشر في 30-05-2008
آخر تحديث 30-05-2008 | 00:00
 أحمد مطر

سواء أكانت رواية «ترام بجنيهين» ذكريات حقيقية أم خيالا محضا، فإن مؤلفها الستيني (وليم نيوتن) يرسل إلينا من خلالها إشارة مهمة مفادها أن التقاعد عن العمل لا يعني التقاعد عن الحياة، وأن لدى كل إنسان قصة، والسعيد هو من يستطيع أن يرويها.

نضحك كثيراً من طرفة القروي المصري الذي اشترى الترام، ونعجب كثيراً من فرط حمقه وغفلته.

ومشكلة هذا القروي هي أنه وجد في بيئة ووقت يساعدان بغلظتهما على تجريده من نقوده وعقله... لكن لو أن خللا بسيطا اعترى حركة الزمان والمكان، فألقى بهذا القروي في الريف البريطاني خلال ثلاثينيات القرن الماضي، لأمكنه، بكل بساطة، أن يشتري ذلك الترام، بل لأمكنه فوق ذلك، أن يشتريه بجنيهين لا أكثر!

نعم ليس في الأمر أيّ مبالغة... أو هذا في الأقل ما يؤكده لنا الكاتب البريطاني (وليم نيوتن) في روايته الجميلة (ترام بجنيهين)!

ما نعرفه عن (وليم نيوتن) هو أنه طبيب متقاعد من (أكسفورد شاير)، وأن هذه هي روايته الأولى التي نال بها عند صدورها قبل بضعة أعوام، جائزة (ساجترياس) التي تمنح لأول عمل روائي لمؤلف فوق الستّين.

لكن لأن بطل الرواية الذي يتولى سرد أحداثها ينتهي إلى أن يكون طبيبا، فإن (نيوتن) يتوصل إلى إثارة شكنا في أنه هو البطل، وأن تلك الأحداث لا تعدو كونها ذكرياته الخاصة عن مرحلتي الطفولة والصّبا... فعلى الرغم من احتواء الرواية على وقائع تبدو غير مألوفة، فإن الحميميّة والصدق والبساطة في السرد تنبئ، بأنها في جوهرها حكايته الشخصية التي سكنت أعماقه طيلة العمر، وأنه قرر، بعد اختمارها، أن يطرحها كتعويذة في وجه الشيخوخة، وأن يقيم بواسطتها معادلاً نفسياً بين عالم العشرينيات والثلاثينيات الذي عاشه بكل بساطته وبراءته، وبين عالم المتغيرات الفظ الذي يحياه اليوم.

تتحدث الرواية عن شقيقين من الريّف البريطاني، هما (ويلفريد) و(دانكن) ولدا في العشرينيات وترعرعا في الثلاثينيات، في كنف والدين لم تكن صلتهما بهما تتعدى مشاركتهما الطعام في بعض الأحيان، في حين كانا يقضيان معظم أوقاتهما، بعد المدرسة، في التجوّل خلال الحقول لاصطياد الطيور والحيوانات البرية، أو لاصطياد الفراشات من أجل تحنيطها.

وفي أثناء ممارستهما هوايتهما الأخيرة، يسوقهما الجري وراء فراشة نادرة الى اجتياز ممتلكات ثري ألماني مقيم في الجوار هربا من النازي، فيقبض عليهما مدبّر المنزل، ويحاولات جاهدين إقناع ذلك الثري بأنهما جامعا فراشات وليسا لصّين...

وتنتهي المشكلة بعد أن يهدياه الفراشة النادرة، حين يعلمان أنه جامع فراشات محترف، وأن له اتصالات دولية في هذا المجال... فتنشأ بينه وبينهما صداقة متينة تكون ملاذا لهما في سنوات محنتهما التي تبدأ في أول بلوغهما، إذ يضطرب عالمهما الهادئ المعهد باختفاء أمهما من حياتهما فجأة والى الأبد، بعد انفصالها عن أبيها الذي يكدّر أيامهما، بعدها، بسلسلة من النساء القاسيات، ثم ينتهي في واحدة من ثورات غضبه الى طردهما نهائيا من المنزل.

وممّا زاد في قسوة تشردهما المبكر أن الأخ الأكبر (دانكن) الذي كان قد أصيب بالتهاب السّحايا ونجا منه بأعجوبة، لم يعد بعد شفائه قادرا على النطق، الأمر الذي اضطر الأخوين الى اختراع لغة خاصة يتفاهمان بها بواسطة الإشارات.

منذ بدء الرّواية نعلم أن الأخوين كانا يحتفظان بقصاصة إعلان اقتطعاها من إحدى الصحف، تحتوي على صورة ترام قديم خارج الخدمة، معروض للبيع، في محطّة بادنغتون، بجنيهين إسترلينيين.

وقد كان هذا الإعلان حلمهما الذي يتعلقان به في ساعات النوم واليقظة، ويدخران من أجله كل بنس ينالانه، حتى تجمّع لهما، بعد طول توفير، جنيهان وبضعة شلنات.

وفي اللحظة التي طردا فيها من المنزل، انطلقا نحو الحلم، قاطعين عشرات الأميال من مقاطعة ساسكس إلى محطة بادنغتون في لندن، سيرا على الأقدام.

وعند وصولهما وجدا الترام المعروض في ا لإعلان، رابضا ضمن مجموعة أخرى من العربات القديمة، لكنهما اكتشفا حالا أن من المستحيل نقله من مكانه، لأن الأمر يحتاج إلى سكة وإلى شريط كهربائي... فقنعا بالاستعاضة عنه بترام آخر من جيل سابق مما تجره الخيول على عجلات كل الطرق، وبالشلنات الباقية استطاعا أن يشتريا حصانا عجوزا، فربطاه بالعربة وعادا إلى مقاطعتهما عبر خطوط الترام القديمة المهملة... ليتخذا من الترام مركبة ومصدر رزق ومأوى لهما.

ذلك ليس كل الحكاية، بل هو في الحقيقة بداية فصول تتلاطم فيها المغامرات العجيبة والحوادث المضحكة المبكية في عالم يصفه المؤلف بأنه (عالم قد صار إلى زوال)... لكنه برغم زواله يبدو حاضرا وحياً وبهياً بكل تفاصيله التي قد يصعب تصديق بعضها، لكنها تظل قابلة للتصديق بفعل براعة القص التي تطرز الوقائع بتخييل قادر على لجم أي تكذيب.

وسواء أكانت الرواية ذكريات حقيقية أم خيالا محضا، فإن مؤلفها الستيني (وليم نيوتن) يرسل إلينا من خلالها إشارة مهمة مفادها أن التقاعد عن العمل لا يعني التقاعد عن الحياة، وأن لدى كل إنسان قصة، والسعيد هو من يستطيع أن يرويها، وأن مراحل العمر على اختلافها صالحة لتحقيق رغبات الذات العميقة، إذا ترك المرء وراء ظهره كل احتمالات الإخفاق، ومضى إلى هدفه بعزيمة وجد، مؤمنا من كل قلبه بأن شراء الترام ليس من الحتم أن يكون نكتة دائما، بل يمكن، مع بذل الجهد، أن يكون رواية ممتازة.

* شاعر عراقي

back to top