خبراء كارنيغي يفتحون ملفات الشرق الأوسط الصعبة في حلقة نقاشية تستضيفها الجريدة: مع تصاعد التوترات الاجتماعية... ليس من الحصافة استبعاد حدوث ثورات في المنطقة

نشر في 23-06-2008 | 00:00
آخر تحديث 23-06-2008 | 00:00
الحلقة الثانية والأخيرة (2-2)

• أدار الحلقة النقاشية: الدكتور غانم النجار

وشارك فيها من الجريدة:

- عصام الدسوقي

- عادل سامي

تصوير: جهاد صالح

في الجزء الأول من الحلقة النقاشية التي استضافتها «الجريدة» قبل أيام، غاص باحثو مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي في قضايا الديمقراطية والتحولات المرتقبة في الشرق الأوسط والبلدان العربية، وأخذوا يتجولون بين قضية وأخرى لم يسلموا أنفسهم لليأس الذي يعتلي المشهد بصفة عامة، وبدا عليهم الإصرار لتشخيص الحالة واستشراف الدور المستقبلي للقوى الخارجية، خصوصاً الولايات المتحدة، التي أكد باحثو «كارنيغي» أن مسألة الديمقراطية لديها توارت تدريجياً لتحتل مرتبة متأخرة على أجندة إدارة بوش التي شرعت في لملمة أوراقها للرحيل من البيت الأبيض، ولم يبق عالقاً في ذهنها سوى الملف الإيراني الذي غدا يتصدر الواجهة، مع محاولات بوش المستميتة من أجل بناء «تحالف دولي» يقف في وجه إيران، وهو تحالف ربما تستفيد منه الإدارة الجديدة.

ولم يتوقف الباحثون عند الدور الأميركي في المنطقة فحسب، بل قطعوا أشواطاً طويلة في استعراض صريح وجاد لأهم المشكلات والأزمات التي تعانيها الأنظمة ومؤسسات الحكم العربية. وتخطوا خلال «جولتهم الحرة» التي أتاحتها «الجريدة» الخطوط الحمراء كافة، فلم يتركوا كبيرة ولا صغيرة، سواء في عودة الأنظمة لإحكام قبضتها الخانقة على الحياة السياسية في البلدان العربية، وإعلاء «كلمة الأمن» وتدابيره في وجه تيارات المعارضة بصفة عامة التي تعاني اهتراءً ووهناً ملحوظين. ورصد الخبراء انحسارا مشهوداً لجاذبية التيارات الدينية في الشارع العربي، ولاسيما أنها منيت بخسائر مؤلمة في العامين الماضيين، ما تسبب في انتقالها القسري من «خانة الرابحين» التي ظلت تحتلها منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى معسكر الخاسرين. وأشاروا إلى أنه رغم تراجع التيارات الإسلامية، فإن الحراك السياسي وتوازنات القوى داخل المجتمعات لم يطرأ عليها مستجدات ذات بال، بفعل ضيق هامش الحركة السياسية الذي تتيحه الأنظمة أمام التيارات المعارضة الأخرى والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.

أما في الجزء الثاني والأخير من الحلقة النقاشية الذي تنشره «الجريدة» اليوم، فقد حرص باحثو «كارنيغي» على استعراض ورصد التيارات والمستجدات الأخيرة على صعيد الديمقراطية عالمياً، مؤكدين أن هناك محاولات عدة لتشجيع الديمقراطية وتحسين أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في مناطق مختلفة من العالم. وتطرقوا في هذا الصدد إلى طرح جديد مثير للدهشة ليس في محتواه، بل في نوعية مَن قاموا بالطرح، حيث تشاركت عقول تياري المحافظين الجدد والليبراليين في الولايات المتحدة الأميركية لتقديم فكرة إنشاء ما أسموه بـ»جامعة الدول الديمقراطية»، أو ما يمكن وصفه بـ «تحالف الديمقراطيات» الذي يضم في عضويته «حاملي بطاقة» الديمقراطية عالمياً، بغرض رعاية وتشجيع الديمقراطية. واستبعد المشاركون في الحلقة النقاشية أن تخرج «جامعة الدول الديمقراطية» عن سياقها وتحولها إلى أداة نفوذ دولية، وسط شكوك تحيط بخروج مثل هذا الكيان إلى حيز النور متوقعين أن يظل «سجيناً» يداعب أدمغة الليبراليين والمحافظين الجدد في أميركا من آن إلى آخر.

ولم تغب حلقة النقاش كثيراً عن قضايا الشرق الأوسط والدول العربية، إذ سرعان ما عاد الباحثون وبصورة أكثر جرأة ومكاشفة إلى الخوض في مناطقها المحرمة «التابوهات»، مؤكدين أن العملية الديمقراطية برمتها في المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل، حتى يمكننا استعادة الشعور بالتفاؤل والأمل في إمكان حدوث تغييرات جذرية أو جوهرية في السنوات المقبلة.

بيد أن نبرة التفاؤل سرعان ما اختفت أمام تلميح المشاركين في الحلقة النقاشية باحتمالات اندلاع حالات فوضى وأعمال عنف، بسبب استمرار الضغوط الاجتماعية والتوترات الداخلية، ومواصلة الأنظمة إمساكها بديناميات المجتمعات العربية عبر توسيع دور الأمن الذي بات يتصدى لمجمل القضايا الداخلية دونما تمييز أو حدود، وزيادة مخصصاته في الموازنات العربية، وتنامي حضور القيادات الأمنية في المشهدين السياسي والإداري المحلي، ولاسيما في مصر والمغرب. بل ذهب رأي أحدهم إلى أنه ليس من التبصر استبعاد حدوث ثورات أو مواجهات في ضوء احتقان الأوضاع الداخلية في بعض البلدان العربية نظرا لتضافر التوترات السياسية مع ظروف معيشية صعبة وأزمات ومشكلات اقتصادية عصية على الحل تعانيها الدول الكبرى الفقيرة في المنطقة.

ومن الجوانب التي توقف عندها خبراء «كارنيغي» طويلاً، ضعف إيمان الرأي العام العربي بالديمقراطية كفكرة ومنهج، مشيرين إلى أنه حتى في ضوء التدفقات المالية المصاحبة للفوران النفطي إلى منطقة الخليج، فليس من المنتظر أن تسهم في تهدئة الأوضاع واستقرارها بالنسبة للدول غير النفطية، بما يرسم مشهداً مثيرا للقلق في المنطقة بأسرها.

• «الجريدة»:

في الأونة الأخيرة قدم خبراء ومفكرون استراتيجيون أميركيون طرحاً يستهدف إنشاء تحالف يضم البلدان الديمقراطية الكبرى في العالم يمكن أن يطلق عليه «تحالف الديمقراطيات»، أو لنقل إن جاز التعبير «جامعة الدول الديمقراطية» “League of Democracies”، يتولى مهمة رعاية وتشجيع الديمقراطية في أنحاء العالم المتفرقة... هل يمكن أن تفسروا لنا طبيعة ذلك الطرح ومدلولاته وانعكاساته؟ وهل يشكل هذا التحالف «إعلاناً صريحاً» بفشل المنظمات والجهود الدولية ومراكز البحوث العاملة في مجال الحريات والديمقراطية؟ وهل يعد ذلك تهميشاً لدورها في المستقبل؟ وماهي الضمانات الكفيلة بعدم خروج التحالف عن أهدافه المعلنة وتحوله إلى «قوة مهيمة جديدة» تعمل على إدارة دفة العالم، وإلى «مظلة» تشرع للمزيد من التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول المختلفة؟

• مارينا أوتاوي:

دعوني ألقي الضوء على تلك الأطروحة، لأني تابعت عن قرب العديد من الفعاليات والنقاشات وحلقات البحث التي تناولت الفكرة في الفترة الأخيرة. فقد نبعت فكرة «جامعة الدول الديمقراطية» أو «تحالف الديمقراطيات» من تيارين مختلفين متباعدين كل البعد في أرضيتهما الفكرية والإيديولوجية، حيث جاء جانب منها من «المحافطين الجدد» في الولايات المتحدة، أما الآخر، أو لنقل جوهر الطرح نفسه، فقد خرج من عباءة «الليبراليين»، وهو في حد ذاته أمر مثير للانتباه أن يجتمع النقيضان على مثل هذا الطرح.

في اعتقادي أن السبب وراء طرح المحافظين الجدد للفكرة أنهم أصبحوا أكثر إدراكاً بأن الولايات المتحدة ليس بوسعها العمل بصورة منفردة وأحادية. وهنا يعود إلى الذهن المشكلة القديمة المتعلقة بدخولها العراق من دون الحصول على دعم من الأمم المتحدة، حيث أيقن المحافظون الجدد أن دخول أميركا الحرب بصورة منفردة ليس بالفكرة الجيدة، كما أنهم استوعبوا في الوقت نفسه أن الأمم المتحدة لن تقتفي أثر واشنطن في تدخلات مماثلة مستقبلاً.

وأظن أن المحافظين الجدد تولدت لديهم الرغبة في إنشاء «تحالف الديمقراطيات» حتى يتيح ذلك للولايات المتحدة إمكان حصولها على شرعية دولية، ومن ثم يكون بوسع واشنطن استخدامها للتدخل في دولة ما- أو أي تدخل مستقبلي مماثل لما حدث في العراق- من دون الحصول على إجماع في الأمم المتحدة أوموافقتها، لأن الولايات المتحدة سيكون بوسعها الإقدام في مثل تلك الحالات إثر حصولها على «صكوك دعم» من «تحالف الديمقراطيات» بديلاً عن الأمم المتحدة. لكني أعتقد خطأ وجهة نظر المحافظين الجدد لأن الدول الأوروبية لن تقبل بتدخلات أميركية منفردة تسهم في إلغاء أو تهميش دور الأمم المتحدة، فضلاً عن اعتقادي بأن محاولة إنشاء تحالف الديمقراطيات في حد ذاته، قد لا يُكتب لها النجاح.

أما الطرح الذي قدمه الليبراليون في هذا الإطار فقد نتج عن مشاعر الاحباط الشديد التي لمسوها إزاء عجز الأمم المتحدة في التصدي للقضايا المعقدة والشائكة المثارة على خريطة العالم؛ وعلى سبيل المثال الوضع في دارفور والصومال. فعلى الرغم من الصرخات المدوية التي تنادي المجتمع الدولي بضرورة التدخل في «كارثة الصومال»، فإن ما شاهدناه هو أن الأمم المتحدة أشاحت بوجهها بعيداً عن هذا البلد المأزوم ولم تحرك ساكناً. وأمام تلك الأوضاع سعى بعض المراقبين والمحللين إلى طرح فكرة التحالف بغرض إيجاد طريقة أو «مرآة»، إن صح التعبير، من خلال تأسيس هيئة أو مؤسسة أكثر فعالية وقدرة على التصدي للأوضاع المأساوية في العالم.

حالات الشلل وتأهيل الديمقراطية

• «الجريدة»:

لكن هناك مخاوف من تحول مثل هذا التحالف إلى منصة تنطلق منها القوى المشاركة فيه لتحقيق مصالحها الخاصة من بقعة إلى أخرى على سطح الكرة الأرضية، ولاسيما أن هناك تجربة «مجموعة الدول الصناعية الثماني» التي تأسست في بادئ الأمر كتجمع يُعنى بقضايا الاقتصاد والمال والصناعة فحسب، بيد أنه مع مرور الوقت طرأ تحول فيها وتبدلت إلى ما يوصف بـ»نادي للكبار» الذي تصاغ فيه سياسات واستراتيجيات قضايا سياسية وإنسانية عدة.

• مارينا أوتاوي:

لا أعتقد أن هناك تحولاً سياسياً طرأ على مجموعة الثماني، إذ إنها تضم بين أعضائها روسيا والاتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة، لذا فإنه يجمع بداخله ثلاثة مراكز قوى مختلفة. ويمكننا ملاحظة أن القوى الثلاث اتخذت مواقف مختلفة في العديد من القضايا والأزمات المثارة في العالم، ومن ثم ليس هناك مَن ينظر إلى مجموعة الدول الثماني على أنها هيئة دولية معتبرة بوسعها التصدي للأزمات المختلفة.

• وهنا يلتقط الدكتور عمرو حمزاوي أطراف النقاش قائلاً:

يمكننا تناول قضية «تحالف الديمقراطيات» من زاوية أخرى تنطلق من انعكاسات ما حدث في السنوات الأخيرة. ويبدو لي أنه من المهم في تلك الحالة تقييم قضايا التحول الديمقراطي من أجل التعرف على موقعها على أجندة العالم في الوقت الراهن بعد سبع أو ثماني سنوات من تجربة حكم إدارة بوش. فمن وجهة نظري أن الديمقراطية كـ»فكرة» باتت تستلزم إعادة تأهيل ومراجعة، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط. كما أن العملية الديمقراطية برمتها بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل على مستويات عدة منها:

أولاً: معالجة مواطن الخلل التي تعتري مسيرة الديمقراطية. وهنا يتعين علينا الوقوف عند الكويت للتعرف على الخطأ الذي يعتري تلك التجربة، ويمكننا رؤية دولة تعيش «حالة شلل» بسبب حالات الاستقطاب بين القوى السياسية، فضلاً عن افتقار الحياة السياسية إلى لاعبين محوريين قادرين على إدارة الأوضاع وتسييرها إلى وجهتها السليمة. لذا فنحن بحاجة إلى نقاش جاد في هذا السياق لاستعادة الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي على نحو إيجابي يؤتي ثماره على الصعد الاجتماعية والاقتصادية التي تشهد بالفعل تطورات متسارعة في بعض الدول الخليجية المحيطة.

ثانياً: نحن بحاجة إلى نوع من إعادة بلورة وصياغة مفهوم التحول الديمقراطي والتعرف على معناه على صعيد النسيج الاجتماعي، الذي يعد، واقعياً، أحد الجوانب المرشحة للانفجار في المنطقة العربية، باستثناء البلدان الخليجية. فإذا نظرنا إلى أي مؤشرات أو دلائل في المغرب ومصر والجزائر واليمن، سنرصد أوضاعاً اجتماعية تواصل تدهورها، كما أن المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية تسجل مستويات متردية، فالصورة هناك أسوأ كثيراً مما نتوقع، وهو ما يجعل المرء يتوقع حدوث المزيد من الاضطرابات. ومن ثم ينبغي معرفة ما يتوجب علينا فعله في ما يتعلق بالإصلاح السياسي والديمقراطي على خلفية أوضاع اجتماعية ومعيشية صعبة بالفعل.

وأخيراً: لإعادة تأهيل فكرة الديمقراطية في حد ذاتها، علينا كباحثين تحديد ما نتوقعه من أداء ومبادرات يمكن أن تقوم بها حركات المعارضة (الإسلامية وغير الإسلامية) في ظل بيئة شبه استبدادية صعبة المراس، تعاني فيها حركات المعارضة ضغوطاً متزايدة، وليس مؤسسات وأنظمة الحكم في المنطقة. لذا فإننا نشهد «مباراة» غير متكافئة تتمتع فيها مؤسسات الحكم باليد العليا وتلعب دورها بجدارة، بينما تقع الضغوط كلها على عاتق الجماعات الإسلامية أو الجماعات الليبرالية أو الأحزاب اليسارية. لهذا فالقضية هنا تتجسد في كيفية الوصول إلى تقييم دقيق بشأن ما يمكن أن تقدمه- أو لا تقدمه- حركات المعارضة في ظل تلك الأوضاع، وكيفية إيجاد حلول لهذه المعضلة. وبالطبع فإن ذلك أيضاً يشكل مسألة إقليمية مثيرة للجدل. وأشعر أن المنطقة، وبعيداً عن فكرة «تحالف الديمقراطيات» المطروحة في الولايات المتحدة، بحاجة ماسة إلى تدارس انعكاسات أحداث السنوات الأخيرة بجدية وعمق.

أنظمة في عيون الشعوب

• «الجريدة»:

في ظل التساؤلات والنقاط التي أثيرت منذ بداية النقاش بشأن انحسار اهتمام إدارة بوش بقضية تشجيع الديمقراطية، وأيضاً بروز نماذج غير ديمقراطية مثل روسيا والصين، كيف نرى المشهد حالياً؟ هل هناك أي أمل لمستقبل الديمقراطية، خصوصاً أن الصورة وفق القراءة الصريحة والواقعية لأوضاع الديمقراطية تقول إننا لا نشهد حراكا على الإطلاق، بل ربما تتقهقر مسيرتها إلى الوراء، كما أنه ليس هناك مَن يحاول إنقاذها... هل هذا هو المشهد النهائي الذي نخلص إليه؟

• بول سالم:

بالطبع نحن نسير إلى «لامكان». فحقيقة الأمر، أن المشهد في المنطقة العربية معقد للغاية وليس مشجعاً في المدى القصير. ويتعين هنا التطرق إلى عدد من العناصر؛ أولها، أن هناك واقعاً يقول إن عزوف الولايات المتحدة عن دفع الديمقراطية وتشجيعها في المنطقة ربما يكون أمراً طيباً، لأن الناشطين الديمقراطيين في الدول العربية كانوا أكثر تحفظا وتشككاً حيال دور واشنطن، خصوصاً في ضوء احتلالها العراق واستمرار دعمها لإسرائيل. لذا فإنه يسهم في إعادة منح الحركات الديمقراطية والناشطين في المنطقة «المشروعية « في «عيون» شعوب المنطقة، وهو ما يستلزم إبعاد أميركا عن الطريق. لكننا يجب أن نتذكر أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، مازال لديهما، وسيواصلان، برامجهما الديمقراطية التي يمولانها في المنطقة وسيكون تأثير مثل هذه البرامج طفيفاً.

السير إلى الوراء

• ويواصل بول قائلاً:

لا يمكننا رؤية المشهد على المستوى الإقليمي من منظور الأبيض والأسود، فأوضاع البلدان المختلفة في المنطقة متبانية إلى حد كبير في ظروفها، وبالتالي من المهم فهم وضعية كل دولة على حدة في ضوء دينامياتها الخاصة. ويستطيع المرء أن يميز ثلاثة أو أربعة أنماط من الدول في المنطقة:

1 - دول فاشلة حتى هذه اللحظة، ولكنها في حال تمكنت من تشكيل برلماناتها وحكوماتها المعطلة فإنها ستصبح ديمقراطية تماماً. وهذا النمط في المنطقة يضم ثلاث دول، هي لبنان- الذي ربما ينجح في تجاوز تلك الحالة خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة أو ربما شهر- وفلسطين والعراق. والحقيقة أننا أمام ثلاث كوارث، ولكنها إذا نجحت في علاج مشكلاتها الأمنية على وجه الخصوص، فإن الخيار الوحيد أمامها هو المشاركة في الحكم وتبني الديمقراطية. ويبقى العراق من بين تلك الأنماط، الأكثر أهمية على المدى المتوسط. فإذا فشل العراق وانهار فإنه سيتسبب في حدوث كارثة في الشرق الأوسط، وفي المقابل إن حالفه النجاح في السنوات القليلة المقبلة وتمكن من تحقيق الاستقرار وتفعيل المشاركة والانفتاح، فإنه سيقدم للمنطقة نموذجاً لنظام ديمقراطي منفتح.

2 - النمط الثاني في المنطقة، يتمثل في نظم الحكم العائلية، مثل الأردن والكويت والمغرب. وقد أظهر بعض هذه النظم أنه أكثر قدرة على السماح بمشاركة أكبر نسبياً في الحكم، أو على الأقل السماح بمشاركة سياسية تليها مشاركة شعبية. والسبب في ذلك أن القيادة العليا للدولة في بعض هذه النظم ليست محل انتخاب، وبالطبع فهو أمر مريح للنظام. كما أن النظام الدستوري غير قابل للمساءلة، والسيطرة على القوات المسلحة والاستخبارات خارج مائدة التفاوض السياسي، أي أنها أمور غير قابلة للنقاش. لذا يمكننا إجراء انتخابات في مثل هذه الدول وتوفير الحرية الكافية نوعاً ما لها، لأنها لا تقرر في نهاية المطاف مصير القيادة العليا في الدولة والقضايا الأمنية والدستورية وغيرها من القضايا السيادية. ولسوء الحظ، أننا لا نستطيع أن نطلق على ما يجري في تلك الدول بأنه عملية «دمقرطة» أو أنها نظم ديمقراطية، فهي لا تعدو كونها مشاركة سياسية في مستويات معينة وفي حدود معينة. كما أن تلك الأنظمة، وبالأخص في الأردن والمغرب، قامت بخطوات جيدة للأمام، لكنها عادت إلى الوراء مجدداً في العامين الأخيرين.

3 - ومن المثير أن أكثر النماذج المحبطة في الشرق الأوسط هي الجمهوريات الكبيرة مثل مصر وسورية والجزائر، حيث تتأرجح خياراتها بين تفعيل المشاركة السياسية وعدم تفعيلها. وليس هناك من معنى للمشاركة في ذهن النظم الحاكمة المتشبثة بالحكم فيها سوى فقدانها السيطرة على مقاليد الحكم. أي شعورها بأنها ستخسر كل شيء في حال عقدت انتخابات نزيهة، لذلك فهي أكثر الأنماط تعقيداً وعناداً وسلطوية.

فالمشهد في المنطقة يبدو راكداً وغير مشجع. إضافة إلى غياب حركات معارضة ديمقراطية قوية في المنطقة، باستثناء الحركات الإسلامية، مثلما أشار د. عمرو حمزاوي. فالحركات القوية في منطقة الشرق الأوسط هي الحركات الإسلامية التي قد تنخرط في العملية الديمقراطية وتستجيب للمبادرات المطروحة، ولكن الديمقراطية في حد ذاتها لا تشكل مكوناً جوهرياً في قناعاتها الإيديولوجية.

لذا أعتقد أن الأوضاع تبدو رمادية وغائمة، ولاسيما مع بروز روسيا والصين ودبي، وتحقيقها نجاحات رائعة من دون تبني الخيار الديمقراطي. مازلت أعتقد أن ما قدمته تركيا يبدو مغايراً وفريداً، كما أن حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي التركي هو صورة فريدة ومختلفة عن الأحزاب الإسلامية التي نراها في بلداننا العربية. فتركيا تقدم لنا ذلك التوازن الفريد؛ دولة قوية، وجيشاً قوياً، ونظاماً علمانياً فعالاً، ونظاماً سياسياً منفتحاً يتيح لقوى إسلامية وجماعات محافظة الانخراط في العملية السياسية وتحقيق أداء جيد. تلك أوضاع لم نتلمس مثلها في الدول العربية من قبل. فتركيا تقدم لنا تجربة مهمة وجادة يتعين على شعوب المنطقة التوقف عندها والالتفات إليها.

مأزق الجمهوريات الكبرى

• يعقب د.عمرو حمزاوي في مداخلة له قائلاً:

في ردي على تساؤل د. بول حول الدوافع والمعوقات التي تحفز أو تعرقل مسيرة دول المنطقة نحو تبني الديمقراطية... أود الاشارة إلى أن أحد المعوقات المهمة التي تعترض طريق الديمقراطية في الدول العربية هو ما نراه من واقع محبط للغاية يتجسد في هيمنة القبضة الأمنية على مقاليد السياسة في الجمهوريات الكبيرة في المنطقة إضافة إلى دول أخرى مثل الأدرن. فدولة مثل مصر. علي سبيل المثال، لا تدار الأمور فيها من خلال النخب السياسية ولكنها تدار من خلال القوى الأمنية. وفي الأردن لا تعالج القضايا الداخلية الرئيسة من خلال الملك ومستشاريه السياسيين ولكن من خلال الملك ومستشاريه الأمنيين. بمعنى آخر أننا نرى تصاعداً متزايدا لدور الأمن في العديد من المجالات داخل الدول العربية ويعد ذلك معوقاً حقيقيا أمام التحول الديمقراطي.

• ويتدخل د. غانم النجار متسائلاً: وهل يعكس ذلك نقصاً في ثقة الأنظمة بنفسها؟

• يجيب د. عمرو حمزاوي:

الأمر ليس متعلقا بالثقة، ولكنه يعكس أن الأنظمة تعود إلى الوراء إلى الحالة نفسها التي كانت سائدة في السنوات الماضية. فهي عزمت إلى العودة إلى إحكام قبضتها على الحكم فالقوى الأمنية هي ورقتها الرابحة والفعالة في تلك المعادلة، ومن ثم لا مانع من النكوص عن مفهوم الانفتاح والمشاركة السياسية وتوفير بيئة مساندة لإجراء تحولات سياسية واجتماعية إيجابية.

ومع إدراكنا بأن هناك معوقات عديدة ومختلفة يمكننا رصد ثلاثة دوافع يتعين تسليط الضوء عليها لعلها، على الأقل، تفتح الباب، أمام احتمالات حدوث تغييرات سياسية إيجابية في السنوات المقبلة:

الدافع الأول: بالنظر إلى الدول الخليجية- ولاسيما الإمارات وقطر بوصفهما نموذجين حققا معدلات متسارعة جدا من عمليات التحديث الاقتصادي والاجتماعي- سنرى أن هناك بروزا لفكرة التعددية القطبية تتمثل في وجود قوى مركزية اقتصادية واجتماعية متعددة، ولكن جميعها مراكز نفوذ خارج نطاق الحيز السياسي. فدولة الإمارات، على سبيل المثال ، لديها نظام ثنائي مزدوج طبقياً، حيث تتوافر تعددية أقطاب وقوى على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وفي المقابل نرى هيمنة قوة وحيدة على الحياة السياسية. وهنا يثار تساؤل: هل بوسع مثل تلك المجتمعات استدامة مسيرتها على المدى الطويل في ظل ما يعتري تركيبتها المزدوجة المتناقضة؟ والجواب هنا ربما لا يحدث ذلك.. ولكن على الأقل فإنها كمجتمعات تتمتع، على أقل تقدير، بوجود محركات ودوافع اقتصادية- اجتماعية ربما تضخ ديناميات وحركات مؤثرة وفعالة.

الدافع الثاني: يتمثل في الحركات والتوترات الاجتماعية المتصاعدة في الدول الفقيرة بالمنطقة، أو تلك التي تعرف تدهوراً متواصلاً في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، مثل مصر والمغرب واليمن كحالات رئيسية، حيث اعتادت حكومات هذه الدول على التعاطي مع تلك القضايا الاجتماعية الصعبة إما بالقهر وإما بتقديم النزر القليل من التنازلات، رغم أنها قضايا تحتاج إلى حلول جدية واستراتيجية لمواجهة مشكلات ملحة مثل البطالة في المغرب، والفقر في مصر واليمن.

وأعتقد أن تصاعد الحركات الاجتماعية وتفاعلاتها ربما تدفع مثل هذه النوعية من الأنظمة إلى إعادة النظر في كيفية الإقدام على مزيد من الانفتاح السياسي من أجل تخفيف حدة التوترات الاجتماعية- الاقتصادية التي تعانيها تلك الدول، فضلا عن محاولة تعزيز المؤشرات الكلية للأداء الاقتصادي، رغم أن مثل تلك الخطوة ربما تستغرق وقتا أطول حتى يشعر مواطنو تلك الدول بثمار التحسن الاقتصادي، كما هي الحال في مصر.

الدافع الثالث: يمكن أن نصفه بـ»مقاربة اللحظة».. في عمر المجتمعات هناك لحظات تنفتح فيها الأبواب على مصراعيها أمام احتمالات يعجز الباحثون عن تقدير انعكاساتها وتداعياتها قبيل حدوثها فعليا ًعلى أرض الواقع. فمثلاً عندما ننظر إلى مصر نراها تعاني «أزمة خلافة»، وهي لحظة تكاد تكون قريبة. بمجرد حدوث أزمة خلافة فعلية في مصر، فإن سياستها ربما تندفع إلى اتجاهات عدة ومختلفة؛ إما قيام الأجهزة الأمنية بإحكام قبضتها على مقاليد الأمور في البلاد، وإما تولي رئيس ضعيف يسعى إلى تعزيز شرعيته باتخاذه خطوات نحو مزيد من الانفتاح السياسي، ولكننا قد نحصل أيضاً على رئيس ضعيف ينصاع كاملاً للمؤسسات الأمنية أياً كانت قراراتها. خلاصة الأمر، أن لحظة أزمة سياسية بشأن الخلافة في مصر ربما تفتح الباب أمام احتمالات كثيرة يصعب توقعها.

لحظة الانزلاق

• هنا تدلي د. مارينا أوتاوي برأيها في هذه المسألة قائلة:

أتفق تماماً مع التحليل السابق بالنسبة لدوافع التغيير السياسي في الدول العربية. ولكن مع تباين الدوافع فإن هناك اتجاهات شديدة التنوع ربما تلج إليها الدول. ولعل أكثر العناصر المشجعة في هذا السياق، وربما يكون أصعبها، ما يحدث في منطقة الخليج. لأن افتراض نجاح أنظمة الحكم الأحادية في الاستمرار في إدارة دول المنطقة في ضوء التحولات الاقتصادية المتسارعة ليست فكرة صحيحة. حتى لو شاهدنا حاليا نحاحات اقتصادية في دبي من دون وجود ديمقراطية، فإن هناك على سبيل المثال مجموعات من الأفراد يسيطرون على استثمارات تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وهي تقوم بتوظيف تلك الأموال في الدولة، لذا يمكننا القول إن هناك لاعبين كثيرين يمثلون مراكز قوة مهمة لايمكن اختزالها. ورغم أن تلك الجماعات لا تنافس على الصعيد السياسي، فإنها تستحوذ على ثقل ونفوذ كبيرين.

لهذا فإن مثل هذا الوضع لن يقودنا إلى التعددية فحسب، بل يسهم في زيادة الحاجة إلى تبني فكر المؤسساتية في المنطقة لأنه من الصعب إدارة الاقتصاد بهده الطريقة. ويتعين علينا تكوين مؤسسات اقتصادية لإدارة الثروات السيادية الهائلة المتوافرة، على سبيل المثال. حقيقة الأمر أنه من الصعب التكهن بالنتائج المرتقبة في المنطقة، وليس بالضرورة إحلال النموذج الكلاسيكي للديمقراطية، ولكن يمكننا الوصول إلى وضعية بحاجة إلى المؤسساتية ودرجات من التعددية للقوى.

أما الأوضاع السائدة في الدول الفقيرة، مثل مصر واليمن والجزائر والمغرب، إضافة إلى سورية رغم أنها أفضل نسبياً من سابقتها، فهي تبدو غير مشجعة نظراً لأن الحراك السياسي والاجتماعي راكد، ولا أستطيع هنا استبعاد إمكان تخطيها تلك المرحلة بسلام، ولكن في الوقت نفسه فإننا نرى أوضاعاً ربما تقود الشعوب إلى التطرف أو إلى الانزلاق في أزمات سياسية مختلفة علاوة على ما تعانيه أصلاً من أزمات اقتصادية واجتماعية صعبة. لذلك فهناك ديناميات حركة في تلك المجتمعات لكنها ليست بالضرورة أن تكون إيجابية.

«خيار العنف» يطل من جديد

• «الجريدة»:

هناك توقعات بحدوث مواجهات حقيقية داخل المنطقة في مرحلة معينة حينما تحاول بعض الدول، ولاسيما الفقيرة منها، التعاطي مع التوترات الاجتماعية الداخلية، ليس من خلال مواجهتها أو تقديم تنازلات من جانبها لإيجاد حلول لها، ولكن بالهروب منها عبر توجيه دفة الاهتمام بالدخول في مواجهات مباشرة مع الخارج، وهو ربما يخلق احتقاناً وتوتراً في أوضاع المنطقة بأكملها، هل ذلك مرشح حدوثه في المنطقة؟

• عمرو حمزاوي:

بالتأكيد، مثلما قالت مارينا، إذا نظرنا إلى البيئة السائدة في المنطقة حيث هناك أنظمة تفتقر إلى التسامح في التعامل مع الحركات الاجتماعية، وتصاعد الاضطرابات الاجتماعية في ضوء تنامي الحركات الاجتماعية العشوائية الطائشة وضعف التيارات المعارضة والأحزاب، فإن أحد الاحتمالات المطروحة قيد البحث التي ربما تنشأ في المنطقة هو «عدم الاستقرار+ العنف» ليس فقط من جانب الحكومات التي درجت أصلاً على استخدام العنف بطرق مختلفة لعلاج أغلب تلك المشكلات، ولكن من جانب القوى الأخرى في المجتمعات بصفة عامة.

وهنا يتعين لفت الأنظار جزئية مهمة إلى أن أحد إيجابيات الحياة السياسية في بعض الدول العربية الفقيرة مثل المغرب ومصر، أن حركات المعارضة (إسلامية وغير إسلامية) كانت في السنوات الأخيرة قد تعهدت بالمشاركة السياسية السلمية واسقاطها للعنف كخيار استراتيجي للتغيير أو المشاركة. ولا شك أنه في حال دفع الأوضاع إلى مرحلة أسوأ، فإن تلك الحركات ربما تعيد النظر في خياراتها وسياساتها المستقبلية. وأعتقد أن بعض حركات المعارضة تتجادل بشأن هذه المسألة، ويجري النقاش حالياً حول جدوى الحركات السلمية في ضوء إحساسها بأنها وقعت في «فخ»... وعادة في حالة وقوع المرء في أحد الأفخاخ، فإنه يفكر جدياً فيما يفعله للخلاص منه.

أما الاحتمال الثاني، الذي يثير قلقي حينما نرصد ما يحدث في مصر والمغرب يتمثل في الخلل الهيكلي للحركات الاجتماعية في هاتين الدولتين، حيث نلحظ غياب جماعات اجتماعية قوية تعمل على ترجمة الحراك الحادث إلى جوهر الحياة السياسية، فما نراه هناك هو ظواهر لـ»طبقات هامشية هشة»، ومثل هذه الفئات الهامشية تنجذب في بعض الأحيان، إلى أفكار وأطروحات غير سلمية. لذا فإن ما نراه هو حكومات تقمع وتزيد قبضتها الأمنية من جانب، ومجتمعات تمارس ردة الفعل بصورة عنيفة، على الجانب الآخر.

مصر: مستقبل مثير للقلق

• بول سالم:

دعني ألفت النظر إلى أن الحكومات باتت عاجزة في بعض الأحيان أثناء انفتاحها الاقتصادي ومايصاحبه من ضغوط اقتصادية، عن إدارة الأمور بنفسها، لذا يبدو المشهد مشوشاً وليس لدينا أمثلة واضحة، ولكن هناك حالات مختلفة في منطقة الشرق الأوسط:

- دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع بالثراء وتعتقد أنها ليست بحاجة إلى الدخول في انفتاح سياسي، فهي تركز جهودها، بمنتهى البساطة، على كيفية إدارة تدفقاتها من الإيرادات النفطية الهائلة على النحو الأمثل.

- أيضاً حالات أخرى نرصد في بعضها أعداداً كبيرة من الفقراء في الدول الكبيرة الفقيرة التي تشهد أوضاعاً متفاوتة إزاء علاقاتها ومستقبلها الاقتصاديين:

(أ‌) الدول المغاربية: المغرب والجزائر وتونس نسبيا، إضافة إلى ليبيا أيضاً، يعد «الوجود الأوروبي» والعلاقات الاقتصادية معها مسألة جوهرية تحظى باهتمام شديد. وهناك أطروحات عدة في السنوات الأخيرة مثل الاتحاد المتوسطي وغيره. وأعتقد أن القضية الحقيقية للدول المغاربية هي كيفية معالجة واقعها الاقتصادي، ومن هذا المنظور فإن الأحزاب والحكومات تدرك تماماً أن سياساتها تؤثر أيضا على أوضاع الاقتصاد، فضلا عن انعكاسها على مصالحها الاقتصادية مع أوروبا. وتركيا تعتبر مثالاً جيدا على ذلك حيث ينصب تركيزها بصورة كبيرة على أوروبا، وهو ما يؤثر بدرجات متفاوتة على سياساتها الداخلية.

(ب‌) مصر: تعد حالة معقدة ومثيرة للجدل، لأنها أول دولة أمنية في المنطقة، وأول دولة تعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، لكن أيضاً هناك ما يدعو إلى القلق بشأن مستقبلها الاقتصادي واندماجها في السوق العالمي والاتحاد الأوروبي.

ليست القضية هنا أن المسألة الأمنية أصبحت هي الرابح الأوحد وتتمتع بالأولوية القصوى في الدول الفقيرة خلال السنوات الأخيرة. فإذا نظرنا إلى الأردن حالياً فإنها تجني الكثير من الأموال بمشاركتها كلاعب سياسي محوري في الحرب ضد الإرهاب، وتحالفها مع المملكة العربية السعودية في هذا المسار. فإن ماقام به الملك عبدالله باستعماله للورقة الأمنية، مفضلا ذلك على الانفتاح الاقتصادي، أصبح يدر على الأردن المزيد من الأموال التي يمكن الحصول عليها من الولايات المتحدة وأوروبا من خلال الانفتاح على تلك القضية وبالتالي يمكن لبلاده التوقيع على اتفاقات تجارية والحصول على مساعدات.

لكن القضية التي يتعين النظر إليها هنا هي ماذا سيحدث في حال تبدل الأجندة الأمنية خلال السنوات القليلة المقبلة بعد انتهاء ولاية بوش وتولي رئيس جديد للولايات المتحدة سواء كان ماكين أو غيره؟ وأرى في تلك الحالة أن الأجندة الاقتصادية ربما تتصدر قمة الأولويات لأن الحكومات ربما تجد نفسها مرغمة على اختبار خيارات أخرى.

أوراق الأجندة الأمنية

• «الجريدة»:

في ضوء الحديث عن الأجندة الأمنية من المهم هنا الإشارة إلى وتيرة المخصصات الأمنية في دول المنطقة... هل هي تتصاعد أم تتراجع؟

• د. عمرو حمزاوي:

بالفعل تلك قضية مهمة ينبغي لفت الأنظار إليها، وهي أننا نشهداً تصاعدا كبيراً وملحوظاً في المخصصات الموجهة للأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية في موازنات العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة، كما شهدنا تحولات في الانفاق الأمني على قطاعات الأمن الداخلي من جانب والمؤسسات العسكرية من جانب آخر.

فإذا نظرنا إلى مصر، على سبيل المثال، فإن المخصصات الأمنية بصفة عامة (الرسمية والمعلنة) في الموازنة المصرية خلال الأعوام 2006 و2007 و2008، تتصاعد بمعدل يزيد على 15 في المئة سنوياً. وإذا نظرنا إلى مخصصات وزارة الداخلية في الموازنة في مقابل وزارة الدفاع، سنرى أنها ارتفعت بنسبتي 20 و12 في المئة على التوالي في السنوات نفسها. وبالتالي فنحن نرى حالة واضحة من تضخم اعتمادات أجهزة الأمن، ليس في مصر فحسب، بل هناك الأردن والمغرب، أيضاً.

وبعيداً عن مخصصات الأمن في الموازنات العربية، دعونا ننتقل إلى مؤشر آخر، وهو درجات تمثيل الشخصيات والقيادات الأمنية في الحياة السياسية والمناصب الإدارية العليا. فإذا نظرنا إلى المغرب ومصر سيثار تساؤل مهم: مَن يحكم الولايات المغربية والمحافظات المصرية؟ سنجد أن 70 في المئة من حكام الولايات المغربية من قيادات المؤسسات الأمنية والاستخباراتية. وفي مصر سنلحظ أن حركة المحافظين الأخيرة التي اعتمدها الرئيس المصري مبارك أخيراً شملت 12 محافظاً جديداً من بينهم 11 من قيادات وزارة الداخلية.

وهنا نرصد ثلاثة مؤشرات؛ أولها، تصاعد في المخصصات الأمنية في عدد من الموازنات العربية، وثانيها، اعتلاء لشخصيات أمنية مراكز إدارية عليا في مؤسسات الحكم، وأخيراً، مؤشر أطلق عليه «الخطوط الحمراء الداخلية»، وهو مؤشر نوعي وليس كمياً، يجسد أين تقف وأين تتجه؟ وهذا المؤشر في السياسة العربية، ولاسيما في مصر والأردن على نحو جلي، هو عبارة عن خطوط حمراء في الحياة السياسية ترسمها الأجهزة الأمنية، ولايشارك في صياغتها النخب السياسية أو الشباب أو الهيئات والشخصيات الإصلاحية في البلد. فالأمن يدير الملف الإسلامي في الأردن ومصر. والأمن لديه حق الاعتراض «فيتو» على تعيين وانتقاء الشخصيات للمناصب الإدارية العليا في الدولتين، فهو يحدد مَن يدخل عالم النخبة، ومَن يتعين طرده منها! فمن الناحية العملية، أجهزة الأمن ترسم السياسات لذا فهي تمتلك نفوذا قوياً لصياغة دينامياتها على أرض الواقع في هاتين الدولتين.

• وعلقت مارينا أوتاوي على المسألة الأمنية في المنطقة العربية والشرق الأوسط قائلة:

دعوني استعرض جزئية أخرى في الملف الأمني في الدول العربية، وهي الدعم الأجنبي، ولاسيما من الولايات المتحدة، ليس للجيوش العربية فحسب، بل للأجهزة الأمنية، أيضاً. فبينما تقوم واشنطن بتشجيع الديمقراطية في المنطقة، نراها تقوي الأجهزة الأمنية العربية وتدعمها، لخدمة الأهداف الأميركية المتعلقة بالحرب على الإرهاب. ويبدو ذلك مقنعا أيضاً في سياق الحفاظ على توازنات القوى المحلية في الدول العربية. لا نعرف الكثير من تلك الجوانب المتعلقة بالميزانيات المخصصة للقوى الأمنية.

«ما في طعم خبز»

• «الجريدة»:

في ما يتعلق بالحرب على الإرهاب... إذا ما حللنا مبادئ الحرب على الإرهاب، ومبادئ تشجيع الديمقراطية سنرى أنها تتناقض في ما بينها، حسبما يجري على أرض الواقع حاليا. وسنجد في نهاية المطاف، أن قضية الحرب على الإرهاب ستحظى بالاهتمام الأعظم في عيون صانعي السياسة الأميركيين بأكثر من الديمقراطية. وتتحول القضية إلى تعزيز وتقوية القدرة الأمنية لتلك الدول التي تبدي رغبتها في التعاون في الحرب على الإرهاب شريطة أن تقدم المساعدة في هذا الإطار مثلما يحدث في اليمن وفي بلاد أخرى. ومن ثم تنهمر المساعدات عليها غزيرة. أما بالنسبة لقضايا الديمقراطية فلا مانع وقتها من تمويل ورشة عمل هنا أو برنامج هزيل هناك، لتختل المعادلة لمصلحة الحرب على الإرهاب على حساب تشجيع الديمقراطية في المنطقة.

• بول سالم:

أتفق مع د. عمرو حمزواي في ما ذهب إليه بأن هناك محاولات في الدول العربية لإعادة القبضة الأمنية عليها فيما يبدو كما لو كان بداية مرحلة جديدة من السيطرة الأمنية، لكن ذلك لم يعالج المشكلات الاجتماعية الحرجة التي تعانيها المجتمعات العربية، التي ربما يشعر بعضها بالسعادة أنها في مأمن من التوترات، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو العراق، بيد أن الدول الكبيرة الفقيرة في المنطقة، لم تسر تلك المعادلة، فـ»ليس فيها طعم خبز»، أي أن الجوع بدأ يزحف على الطبقات فيها، وما إن يبرز الجوع والفقر الحقيقي حتى تتبدد سعادة الشعوب ويختفي شعورها بالأمان، وهنا تتصاعد مخاوف لها «طعم آخر». فليس من الممكن استبدال الأمن بالجوع. فعلى سبيل المثال، فإن سورية التي يبلغ تعدادها 20 مليوناً فقط ليس مثل الـ80 مليوناً في مصر، فإن المواطنين هناك يزدادون فقراً وبدؤوا في الشعور بالضجر واليأس. معادلة الأمن في تلك الحالة لا تعمل.

• عمرو حمزاوي:

علينا أن نلاحظ هنا أن استعادة بعض الأنظمة العربية لعصا الأمن تسير بصورة موازية مع تفشي الفساد وتغلغله في مستويات وقطاعات عدة منها القطاعات الأمنية نفسها. تشديد قبضة الأمن على المجتمعات العربية في ظل تفشي الفساد يضاعف من المصاعب التي تواجهها الأنظمة في تعاطيها مع المشكلات الاجتماعية المستعصية التي تعانيها. قد يساعد التشديد الأمني الأنظمة في ضبط الأوضاع واستقرارها لفترة محددة، وربما أثناء نشوب أزمات- الخلافة في مصر، وتداعيات حرب العراق على الأردن- لكنه لا يقدم حلولاً على المدى البعيد.

• مارينا أوتاوي:

مع قبولي بالكثير من وجهات النظر المطروحة في الملف الأمني في المنطقة العربية، لكن يتعين علينا أن نكون حذرين من ترسيخ الانطباع بأننا جميعاً مقتنعون أن «الثورة» مستبعد حدوثها في هذه الدول، لأن الأوضاع الهشة والمتوترة ربما تقود إلى أحداث عنف واضطرابات وقلاقل. في معظم الحالات فإن مثل هذه الأوضاع قد لا تنقلب إلى ثورات. وأعني هنا أنه لو نقبنا تاريخياً في فترة زمنية معينة سنجد أن هناك ثورات قليلة رغم أن الاضطرابات السياسية والاجتماعية كانت شائعة آنذاك. وهنا يبرز أن كثيراً من دول المنطقة تطبق، بطريقة أو أخرى، التجربة السعودية في هذا الشأن. لذا فإنه عندما تكون الأوضاع مثيرة للقلق بصورة لافتة، فإن الثورات ربما تحدث، ويتعين علينا عدم إعطاء الانطباع بأنها لن تحدث أو إسقاطها من الحسبة.

المنطقة والفوران النفطي

• «الجريدة»:

لكن في ظل هذا المنظور فإنكم حيّدتم عوامل أخرى مهمة، فهناك كميات كبيرة من النفط.. فهناك زيادة غير مسبوقة في أسعار برميل النفط، وهو ما يسهم في تراكم ثروات، وربما ينعكس في صورة مشروعات ترعاها وتشيدها الدول النفطية في الدول الفقيرة، مما قد يخفف بعض الشيء من الأوضاع الاجتماعية الحرجة، سواء بامتصاص عمالة فائضة أو في صورة مساعدات، كما أن بعض تلك المشروعات ربما تدار بأساليب حديثة وكفاءة تدر دخلاً ربما يسهم بعضه في تحسين الأوضاع في لبنان أو المغرب أو مصر. فما رأيكم في ذلك؟

• مارينا أوتاوي:

لا نعرف الكثير عن تأثير استثمارات الدول العربية النفطية في نظيراتها الفقيرة غير المنتجة، نحن بحاجة إلى معرفة المزيد عن المعلومات حول هذا الشأن. بالطبع بدأت بعض الاستثمارات تتدفق على عدد من دول المنطقة، وهي تساهم في خلق وظائف وغيرها من التطورات الإيجابية. لكن على مستوى الهيئات التنموية والمساعدات، بالطبع هناك مؤسسات أنشأتها الدول المنتجة للنفط في دبي وقطر والمملكة العربية السعودية بهدف تقديم مساعدات للدول العربية المعوزة، لكن ما أقوله هنا هو تأثير تلك الاستثمارات والمساعدات يصعب قياسه بدقه حتى الآن.

• بول سالم:

أعتقد أن تصاعد التدفقات النقطية على المنطقة كان له أثر فعال بالنسبة للدول الكبيرة مثل إيران والمملكة العربية السعودية، ولاسيما في ظل حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي العميقة التي حدثت بعد غزو العراق. فإن جانباً من إيراداتهما النفطية استخدم لتعظيم دورهما ونفوذهما في المنطقة، وأعني هنا في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية (حماس). فما نراه في المنطقة حالياً، أن جزءاً من الإيرادات النفطية الهائلة المتدفقة بات يخصص لإدارة «حرب باردة إقليمية». فالكثير من الأموال يتم ضخها من أجل النفاذ إلى دول أخرى في المنطقة، خصوصاً إثر الفوضى في العراق وفشل الولايات المتحدة هناك. وهؤلاء اللاعبون الجدد يسعون إلى إيجاد دور أو خلق مناطق نفوذ لهم في الدول المجاورة.

نستطيع القول إن كثيراً من الأموال النفطية كانت عنصراً لإشاعة التوترات وعدم الاستقرار، وتمويل المواجهات في المنطقة، وترسيخ نموذج نظام الحكم الأحادي المهيمن، وهو ما رأيناه في أقصى الكرة الأرضية في روسيا، على سبيل المثال. ولكن هناك نماذج قريبة في المنطقة مثل إيران والمملكة العربية السعودية، إضافة إلى دبي ولكن بصيغة أخرى. مثل هذه النماذج ليست صحية فيما يتعلق بالممارسة الديمقراطية، ولكنها قد تكون طيبة من زاوية الاستثمارات وإدارة الأعمال.

•عمرو حمزاوي:

يمكننا رصد عدد من الاستثمارات الخليجية في الدول العربية، وليس لدي أرقام محددة، لكننا نرى شركة «اتصالات» الإماراتية تؤسس شبكات لها في اليمن ومصر وتونس، وشركة «إعمار» ، وهي شركة إماراتية عملاقة تدير مشروعاتها في كل مكان. وهناك دلالات على حضور فاعل لرؤوس الأموال في تونس والمغرب ومصر.

لكن المفارقة هنا أنه بينما يتفشى الفساد بصورة ملحوظة في مجال الأعمال داخل تونس ومصر، فإننا نرى الشركات الخليجية الإماراتية القطرية أقل فساداً. في الإمارات، خصوصا في دبي على سبيل المثال، لديها نظام صارم لمحاربة الفساد، حيث تحاول الشركات العمل وفق «أساليب نظيفة» لممارسة أنشطتها.

خبراء «كارنيغي»

د. غانم النجار

باحث في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي، وأستاذ علوم سياسية في جامعة الكويت، وخبير دولي في الأمم المتحدة، ومستشار التحرير.

د. مارينا أوتاوي

كبيرة باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن، وهي خبيرة في شؤون الشرق الأوسط والديمقراطية والإصلاح السياسي وإعادة الإعمار في مناطق الصراع في الشرق الأوسط والعراق وأفغانستان والبلقان والدول الأفريقية- حاصلة على الدكتوراه من جامعة بافيا في إيطاليا. وصدر أحدث مؤلفاتها في يناير 2008 تحت عنوان: «ماوراء الزيف: الإصلاح السياسي في العالم العربي» بمشاركة جوليا شوكير فيزوسو.

د. بول سالم

مدير مركز مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي – الشرق الأوسط - بيروت، وهو خبير في قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي والفساد والشفافية وعمليات حفظ السلام والإصلاح القانوني، كما أنه متخصص في الشؤون اللبنانية والكويتية في المؤسسة. وصدر أحدث مؤلفاته عام 2006 تحت عنوان: «بيروت والكويت: البرلمانيون العرب ضد الفساد». وحاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد.

د. عمرو حمزاوي

كبير باحثين مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن، وهو خبير في قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، والإسلام السياسي، ومتخصص في شؤون الشرق الأوسط ومصر ولبنان، وصدر أحدث مؤلفاته عام 2006 تحت عنوان «حقوق الإنسان في العالم العربي: أصوات مستقلة» بمشاركة أنتوني شيز.

back to top