الرشيد هارون ـ أبوجعفر ـ ابن المهدي محمد، ابن المنصور عبدالله، بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، واحد من أشهر خلفاء الدولة العباسية، وأحد أشهر ملوك الإسلام قاطبة، اختلفت بشأنه الروايات والحكايات، بين نقيضين لا وسط لهما، فهناك رأي يرى بأنه عاش حياة كلها عبث ولهو ومجون، وهناك من يرى أنه كان ملكا عادلا وعبدا صالحا، عاش حياته عاما يجاهد وعاما يحج، ونسب إليه أنه حينما تغلغل المرض منه وقف يبتهل إلى الله تعالى ويقول: يا من لايزول ملكه.. ارحم من قد زال ملكه».

Ad

استخلف الرشيد بعد أبيه بعد موت أخيه الهادي، وكان ذلك ليلة السبت 14 ربيع الأول، سنة 170 هـ، الموافق 14سبتمبر سنة 786م، وتعد هذه ليلة فارقة من ليالي الزمان، ففيها ولد ابنه عبدالله المأمون، أي مات فيها خليفة، وولد فيها خليفة، وقام فيها خليفة، وكان يكنى أبوجعفر.

كان مولده سنة 148هـ بالري بخراسان، حيث كان أبوه أميرا على خراسان، وكانت أمه فارسية تسمى الخيزران، وفيها قال الشاعر مروان بن أبي حفصة:

يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسي يسوس العالمين أبناك

كان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، وكان يصلي في خلافته كل يوم مائة ركعة، لا يتركها إلا لعلة إلى أن مات، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم، ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص.

قال الجاحظ: اجتمع للرشيد مالم يجتمع لغيره.. وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبويوسف، وشاعره مروان ابن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل ابن الربيع أنبه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلي، وزوجته زبيدة.

كان عهد الرشيد واسطة عقد المدة العباسية، وصلت فيه الخلافة إلى أفخم درجاتها صولة وسلطانا، وثروة وعلما وأدبا، ارتفعت فيه حضارة الدولة العلمية والأدبية والمادية، إلى أرقى درجاتها، وكان في عهد الرشيد من كبار الرجال ممن تزدان بهم الممالك من رجال الإدارة والحرب، فعظمت الهيبة في الداخل والخارج.

وقال الذهبي: أخبار الرشيد يطول شرحها، ومحاسنه جمة، وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء.. سامحه الله.

في أيامه مات الإمام مالك ابن أنس، والإمام الليث بن سعد، والإمام أبويوسف صاحب أبي حنيفة، والشاعر مروان ابن أبي حفصة، والشاعر العباس ابن الأحنف, والشاعر أبوالعتاهية، والمغني إبراهيم الموصلي، وعمدة النحويين سيبويه، وعبدالله بن المبارك، والزاهدة المعروفة رابعة العدوية.

وعاصره من ملوك الإسلام في عهده عبدالرحمن الداخل في الأندلس (138 ـ 172هـ)، ثم هشام بن عبدالرحمن (172 ـ 180هـ )، ثم الحكم بن هشام (180 ـ 206هـ)، وفي المغرب إدريس بن عبدالله بن الحسن (172هـ ـ 177هـ ) ثم ابنه إدريس (177 ـ 213هـ )، ومن ملوك أوروبا عاصره الملك شارل الكبير أو شارلمان ملك فرنسا ( 767 ـ 814م )، وفي مملكة القسطنطينية قسطنطين السادس، وكانت تدير أمور الدولة أمه أريني (780 ـ 797م ) ثم استبدت بالملك من عام 780 حتى 802م، إلى خلعها نقفور (802 ـ 811م ).

في سنة 187هـ أتاه كتاب من ملك الروم نقفور ينقض الهدنة التي عقدت بين المسلمين وبين الملكة «ريني» ملكة الروم، وكان نص كتاب ملك الروم لهارون الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد.. فإن الملكة التي كانت قبلي، كانت أقامتك مكان الرخ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها أحمالا، وذلك لضعف النساء وحماقتهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه من الخوف، واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتاب ملك الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه.

ثم سار ليومه، فلم يزل حتى نازل مدينة هرقلة، ففتح وغنم واصطفى وأباد، وخرب وحرق، وكانت معركة مشهورة وفتحا مبينا، فطلب نقفور الموادعة، والتزم بخراج يحمله كل سنة.

فلما رجع هارون إلى بغداد نقض ملك الروم العهد لإياسه من كرَة الرشيد في البرد، فلم يجترىء أحد أن يبلغ الرشيد نقضه، وقال أبوالعتاهية أبياتا عرضت على الرشيد، فقال: أوقد فعلها؟ فكر راجعا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى بلغ مراده، وحاز جهاده.

وفي سنة 189هـ فادى الروم حتى لم يبق بممالكهم مسلم واحد أسير، وفي سنة 190هـ فتح هرقلة، وبث جيوشه بأرض الروم، ففتح مقدونيا، وقبرص، وصقلية، ثم توجه سنة 192هـ إلى خراسان، وبقي بها حتى وافته المنية في ثالث جمادى الآخرة سنة 193هـ ، الموافق 24مارس سنة 808م، ودفن بطوس.