يحتمي الانسان بالنسيان، تحتمي الطبيعة بالفصول في دورة متكررة الى ما لا نهاية، يلجأ الكاتب الى وسيلة ماهرة وماكرة في نفس الوقت: ان يخدع الذاكرة والواقع معاً، بخيطٍ من التخيلات وشبكات من الرموز المعقدة. أن تكتب هو أن تنسى، وأن تستحضر الأشياء، هو أن تُعيد ترتيب غيابها. لا يحضر الشيء في الكتابة، بل ظله، غيابه، ذلك الأثر الخفيف المستحضر بقوة الكلمة، حتى إن كان للكلمة فعالية مادية. تكتب كأنك في ليل الوعي، يلعب النسيان هنا، دور الخادم فتظهر ظلال الأشياء عبر ذاكرة مصفاة، أكثر ألقاً وشفافية. لا تجهل الكتابة ذاتها، لهذا فهي عصية، مربكة، صعبة الاستسلام، وربما أيضاً لا يرضى الكاتب عما يكتب، وإذا رضي، فإنه واهم وتكون الكتابة قد خدعته، لأن النسيان غير مكتمل، ولا تستجيب الكتابة لذاكرة تطفو فوق السطح وتفتقد الجذور، أي النسيان.
كان مارسيل بروست قد أمتلكهُ النسيان، وإلا لما كتب البحث عن الزمن الضائع ، ما الذي أحضر الزمن الضائع ؟ طعم الكعك بالشاي فـ تذكّر فانبثق نبع من وادٍ سحيق. ألا يحدث أحياناً، أن نشم بالصدفة رائحة ما، أو نتذوق طعماً ما، فإذا بالذاكرة، تقودنا الى رائحةٍ مشابهةٍ أو طعمٍ مشابهٍ، في طفولتنا أو في أزمنة قصية من أعمارنا، ذلك لأنه لو لم ننسَ لما تذكرنا.يقول بروست في افتتاحية طريق سوان : «إن رائحة الأشياء وطعمها يظلان في الجو، زمناً طويلاً، كالأرواح جاهزة لتذكيرنا.... منتظرة اللحظة المناسبة»، بهذا المعنى يذهب أيضاً، م. ل. روزنتال في كتابه الشعر والحياة العامة ليذكر، ييتس في قصيدته الشيطان والوحش ، معلقاً عليها بأنها تنطلق من النسيان بدلاً من التذكّر، وهي قصيدة تستوحي عالم الشيخوخة، «عندما تتهاوى الضوابط التي تسيطر على وعينا».ولكن سرعان ما انبجست دمعةإذ استوقفتني سعادة تائهةعلى شاطىء بحيرة صغيرةلأشاهد نورساً ابيضينقضُ على لقمة ألقيت في الهواء،ثم يحوم هنا وهناك.لقد أراد مارسيل دوشامب، أن يقوم بتكسير مزدوج للذاكرة. أحضر مِبولة ، اقتناها من سوق العاديات ووضعها في زاوية مهملة في محترفه. بعد زمن التفت إليها وعرضها أمام الجمهور في واحدٍ من معارضه. استغرب الجمهور بالطبع، لكن مارسيل دوشامب بعمله هذا، وجّه سؤالاً قاسياً وجذرياً الى الفن، أراد أن ينسى تماماً كل ما تعلّمه عنه، وأن يستفز الجمهور بصوت عالٍ: لماذا نسيتم المِبولة؟ المِبولة أيضاً عمل فني، سيلتقطُ هذه الفكرة ولكن في زمن آخر، وبتصعيد مختلف، تلميذه الأميركي آندي وارهول.«الكتابة هي النسيان، الأدب هو الطريقة الأكثر امتاعاً لتجاهل الحياة» هذا ما كتبه ذات يوم، فرناندو بيسوا في كتاب اللاطمأنينة ، لكن ما الذي يرمم النسيان، ما الذي يملأ مساحة الذهب، البيضاء تلك؟ قوّة المخيّلة، أقول، قوّة المخيلة وهي تقترب من سطوة الغياب والموت، تماماً مثل ضبابٍ خفيف يلامس الأعماق، لكي نقترب أكثر من هذه الفكرة، دعونا نتأمل قصة للكاتب الأرجنتيني، خوليو كورتثار، كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، احتوتها مجموعته القصصية الأسلحة السرية ، يتحدث الكاتب عن عازف جاز موهوب، آلة الساكسفون يتعاطى أساليب العيش بنوع من البوهيمية واللامبالاة المفرطة، فيعزف بنشاز أحياناً ألأن الذاكرة أقوى منه؟ ، لكن ذات مرة وفي حال تجل كامل، يقدم العازف نغمات موسيقية، تصل الى حدود المعجزة. عندما يُسأل عن هذا السر، يكتفي بالقول، ما معناه، أنه لم يكن حاضراً، لأنه أحس في لحظة التجلي تلك، بأنه كان ميتاً، كان يرى نفسه وهو يركض في مقبرة شاسعة، لينبش القبور، واحداً بعد الآخر، بحثاً عن جثته هو. لقد وصل الموسيقي الى لحظة نسيان تكاد تقترب من لحظة الموت، وكان قد أغمض عينيه حقاً، كأنه لم يعُد ينتمي الى هذا العالم، فانبثق اللحن السحري من نقطة بيضاء، من جذر النسيان، بقوة مخيلة كورثتار، وكان كورثتار في حياته عازف جاز أيضاً وعلى نفس الآلة .
توابل
اكلة اللوتس 1
15-04-2009