قبل أيام أجرى الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حواراً مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، تناول فيه آخر التطورات الدراماتيكية التي تشهدها بلاده، وخصوصاً ما يتعلق بتحديات الأمن القومي من دعوات انفصالية واقتتال أهلي وتهديدات إرهابية. وتحدث الرئيس أيضاً عن العلاقات الثنائية بين صنعاء وواشنطن، وعن خلافته السياسية، مقللاً من شأن الحديث عن توريث الحكم لنجله أحمد، ومشيراً إلى أنه نصحه بـ«عدم الترشح لمنصب الرئاسة عند انتهاء فترة الرئاسة الحالية عام 2013».

Ad

لكن أبرز ما جاء في هذه المقابلة المهمة كان وصف الرئيس للصعوبات التي يواجهها بحكم منصبه كرئيس لليمن؛ إذ رأى صالح أن «حكم اليمن كان دائما مهمة صعبة أشبه بالرقص مع الثعابين»، وهو الأمر الذي يُذكّر بما ذهب إليه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الزعيم القبلي والسياسي اليمني، حين سئل عن رأيه في إعادة انتخاب الرئيس صالح، في الانتخابات الرئاسية اليمنية الأخيرة، التي جرت في سبتمبر 2006، إذ أجاب الرجل بقوله: «جني نعرفه، ولا أنسي ما نعرفه».

جني يراقص ثعابين... على هذا نامت الجمهورية العربية بعد أكثر من نصف القرن من ولادتها. فساد، وحروب أهلية، وفتن، وإرهاب، واحتمالات تفتت، وهزائم في مواجهة العدو الخارجي، وأخيراً الوقوع في براثن الغزو

ماذا أخذت الجمهورية من الملكية؟ الاستبداد، والتوريث، وخلط المال الشخصي بالمال العام. وماذا أضافت الجمهورية إلى شعوبها؟ توقعات بأن الأحوال تتجه دائما نحو الأسوأ، ولذلك فالأفضل أن نتمسك بالراهن، رغم انطوائه على كل عجز وفساد.

دعونا نقف قليلاً لنسترجع تاريخ الجمهورية العربية، ونبحث في الاختراقات التي حققتها، والمشروعات التي نفذتها، ونراجع وعودها والآمال التي عقدت عليها، منذ جاءت على أنقاض «ملكيات فاسدة ومستبدة»، لتمنح شعوبها الأمل والقدرة على الفعل وتحقيق التقدم والرفاه.

سقط العراق محتلاً، بعدما كانت جمهوريته منبع الآمال لدعاة التقدمية والقومية كلهم من المحيط إلى الخليج، وبعدما عاش شعبه نحو ربع القرن رهينة لنظام بوليسي مرعب، ارتكب كل ما عُرف من حماقات الإدارة السياسية، وأخطاء توظيف الموارد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والخطل الاستراتيجي.

ويعود اليمن مجدداً إلى سؤال الوحدة والانفصال في الجنوب، وتجري الحرب الأهلية في الشمال، وتتزايد معدلات الفساد إلى حد كبير، لا يترك مجالاً للانتفاع بأسعار النفط المرتفعة، وثمة حديث ومؤشرات إلى مشروع لتوريث السلطة، وتيار ديني نافذ، لا يضاهيه قوة إلا قبضة الأمن الفولاذية، وفقر وتراجع واضح في الأداء العام.

التحالف ذاته بين العسكر والإسلام السياسي كان حاكماً في الجمهورية السودانية ومازال، لكنه لم يحُل دون الانشقاقات والمؤامرات المتتابعة، حتى استقرت البلاد على فوهة بركان. تهديدات بعقوبات دولية، وقتال أهلي في دارفور بالغرب، وجنوب على وشك الانفصال، وحكم يتزعزع في العاصمة، لا يعرف من أين تأتيه الطعنة القاتلة، بسبب كثرة الطاعنين وتربصهم الدائم في الخارج والداخل على حد سواء.

الجمهورية في الجزائر مازالت تواجه مشكلات مع التيار الديني المتطرف، وبعدما خاضت البلاد أطول الحروب وأشرفها من أجل الحصول على الاستقلال، أصبحت من أهم موارد «أخبار المجازر» في المنطقة والعالم، ورغم عائدات النفط الآخذة في الارتفاع، ليس هناك ما يشير إلى تخطي الفقر وسوء توظيف الموارد.

لبنان كما نعرف جميعاً: من جمهورية بلا رئيس، إلى رئيس بغير جمهورية، يرقد على احتمالات لا تنتهي من الفتن والانفجار والتشظي الأهلي والتصارع الإقليمي.

وفي ليبيا ومصر يسعى الحاكمان إلى توريث الحكم، بعد التمتع بالسلطة المنفردة لعقود متتالية، من دون أي اعتبار لفكرة تداول الحكم التي تقوم عليها الجمهورية في الأساس، وبجانب ذلك، تعاني الدولتان أزمات حادة وعصيبة، سواء في ما يتعلق بالإدارة، أو الديمقراطية، أو الفقر، أو القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

أما سورية، فقد ورثت جمهوريتها الحكم، لتعطي الإشارة الخضراء الأولى نحو استعادة أبرز خصائص الملكية، وتنفي اي إمكانية لاحترام آلية تداول السلطة، التي كانت مطمحاً رئيساً وهدفاً عزيزاً لكل مَن عارض الملكيات، وسعى إلى استبدال الجمهوريات بها في المنطقة كلها.

رؤساء جمهوريات يشعرون أنهم يراقصون الثعابين، ويشكون معاناتهم للصحافة والناس، متعللين بأنهم «محرومون من الراحة والمتع البريئة البسيطة، والإجازات الأسبوعية والسنوية، ورائحة الملوخية»، ويحرصون على تحذير أنجالهم من تكرار الخطأ ذاته: «لا تترشح للرئاسة يا بني»! لكنهم مع هذا يحكمون لعقود طويلة ممتدة، ويوطدون لأقاربهم وأصهارهم وحلفائهم في السلطة، ويورثون لأبنائهم الرئاسة، ويحمون الفساد ويرعونه، ويخسرون الحروب في الداخل والخارج، وينتقدون العهود الملكية لأنها فعلت هذا كله، ناسين أن ملكيات العالم أجمع قد تعجز عن الإتيان بنصف ما أتوا به.

الجني لا يرقص مع الثعابين، بل يلهو بها ويضحك عليها... روّضها لعقود، وأورثها، وما تملك، لنجله، أو هو في طريقه إلى هذا، لأنها ثعابين هتماء وعمياء أيضاً.

* كاتب مصري