في السبعينيات، وفي حمى النضال الفلسطيني ضد إسرائيل، سادت موضة خطف الطائرات لحقيق أهداف سياسية، وكانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» نشيطة في هذه العمليات، وأشهرها تلك التي قام بها «إيليتش سانشيز» الملقب بـ«كارلوس الثعلب» وهو شيوعي فنزويلي، تبنى القضية الفلسطينية، والتحق بالجبهة الشعبية، وفي عام «1975» قاد مجموعة واختطفوا الطائرة التي كانت تقل وزراء «أوبك» وهبطوا بها في الجزائر، وكانت سبب شهرته كإرهابي دولي، ثم تبعتها فترة 20 سنة من التنقل بهويات مزيفة كان يقوم خلالها بعمليات مأجورة لمختلف الأطراف إلى أن استقر به المقام في السودان، حيث خدعه أصدقاؤه وسلموه لفرنسا، ولايزال يقضي فترة محكوميته، الشاهد، أن كارلوس ألّف في السجن كتاباً باسم «الإسلام الثوري» أعلن فيه إسلامه، وافتخر بكونه «إرهابياً»، ودافع عن «العمل الإرهابي» واعتبره واحداً من أكثر الأعمال النبيلة، بل زعم- بجهل يحسد عليه- أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على تبرير الإرهاب، وعلى إنتاج عدد كبير من القتلة والشهداء الذين يعتقد أنهم ضرورة لقضية البشرية، وهي «تدمير أميركا».

يثني كارلوس على نظام الخميني «ولاية الفقيه» ويعتبر «نظام طالبان» نظاماً مثالياً للدولة الإسلامية، كما يثني على «نظام صدام»، ويدافع عن «بن لادن» ويلقبه بـ«الشيخ»، مؤكداً براءته من هجمات «11- 9» وأنها من تدمير جماعة باكستانية، لكن أغرب ما في هذا الكتاب الذي ترجمه من الفرنسية «أمير طاهري» أن كارلوس يحاول أن يتقمص شخصية المصلح الديني، فيقدم مشروعه للإصلاح الديني، تكون فيه «العبادات» واجبات صغرى و«قتال أميركا بكل الوسائل» هو الواجب الأول للمسلمين.

Ad

هذا التبرير الديني -المزعوم- الذي قدمه «كارلوس» لعملياته الإرهابية بما فيها «القرصنة الجوية» ينقلنا إلى عملية اختطاف «19» من السياح الغربيين والأدلاء والسائقين المصريين على أيدي «مسلحين» بمنطقة «الجلف الكبير» بالعوينات، وكان السياح في رحلة «سفاري» تقوم بها الشركات السياحية لرؤية «رسوم للإنسان الأول على الصخور تعود إلى ما قبل التاريخ» في «19- 9» حيث أصبحوا «رهائن» بيد خاطفيهم الذين طلبوا الفدية، واستمر احتجازهم «10» أيام، لكن العملية انتهت بسلام وعاد المختطفون إلى ديارهم، ولا يعنينا كون تحريرهم تم بالقوة أم أن الخاطفين أطلقوا سراحهم بعد أن يئسوا، ولكن ما يهمنا في هذه القصة، ما صرح به رئيس شركة السفاري المنظمة للرحلة «إبراهيم الصابر» الذي كان ضمن المخطوفين وأدار عملية الوساطة- عبر زوجته الألمانية- التي كانت تنقل مطالب الخاطفين إلى الألمان، قوله: «إن الخاطفين كانوا يصومون رمضان ويصلون الأوقات الخمس ويقولون نحن نريد فلوسا من ألمانيا لا مصر، لأن الألمان أموالهم حلال لنا، أما مصر فأموالهم حرام علينا» وفي جوابه عن سؤال: هل يتبع الخاطفون جماعة دينية متشددة؟ قال: هم ناس متدينون عاديون لكنهم يرون أن الاختطاف والمطالبة بفدية ليس خطأ!!

علامات التعجب عندي تتساءل: من الذي زرع في عقول هؤلاء أن الاختطاف ليس حراماً؟! وكيف أمكن إقناعهم بأن هذا العمل الإرهابي أمر مشروع؟ يقول الصابر: إن الخاطفين يعملون لمصلحة حركة تشادية متمردة لقاء «100-200» دولار شهرياً للفرد، ما أبخس قيمة الإنسان المسلم! هل هناك اساءة أعظم؟! السياح الأوروبيون شاهدوا الخاطفين يصلون ويصومون، ومع ذلك لم يتورعوا عن خطفهم وطلب الفدية، ولنا أن نتساءل: ما انطباع هؤلاء عن الإسلام والمسلمين بعد عودتهم؟! أليس ذلك أمراً محزناً؟ ولكن –مهلاً- فهذه ليست نهاية الأحزان، فقراصنة البحر الصوماليون، قدموا ما هو أشد حزناً! لقد حولوا الممر الملاحي في منطقة القرن الإفريقي، الذي تعبره 22 ألف سفينة تحمل 4% من النفط للعالم، إلى أخطر ممر ملاحي، إذ بسبب غياب الدولة، وضغف القانون وانشغال الحكومة بمواجهة القصف الذي يشنه المتمردون الإسلاميون، عمت الفوضى الأمنية السواحل الصومالية وأصبحت مرتعاً خصباً للعصابات، والقراصنة الذين يجوبون المياه الساحلية، فيزرعون الرعب في نفوس البحارة والسكان، لقد سيطروا على السواحل، وابتزوا السفن، إذ يفرضون على كل سفينة مخطوفة «فدية» مليون ونصف المليون دولار، هذا المبلغ في بلد يعاني المجاعة يمثل حلماً، وهذا أغرى المزيد من الشباب للانضمام إلى عمليات القرصنة، لتصبح مهنة رابحة حتى وصل عددهم إلى ألف مسلح، يحكمون السواحل الصومالية، وأصبح لهم متحدث رسمي باسمهم، وفي تقرير صدر من مركز «شاتام هاوس» للدراسات بلندن، يبدو أن «الفديات» التي حصل عليها القراصنة في العام الحالي، بلغت 30 مليون دولار، وقد هاجموا 61 سفينة منذ يناير 2008 ونجحوا أخيراً في اقتناص صيد سمين «باخرة أوكرانية» تحمل ترسانة من الأسلحة الثقيلة، فطلبوا فدية 35 مليون دولار ثم خفضوها إلى 8، مما جعل المجتمع الدولي يتحرك ليضع حداً لهذه العمليات الإرهابية، عبر إنشاء شرطة بحرية دولية، لحماية السفن، وتأمين وصول المعونات الغذائية إلى هذا البلد المنكوب الذي يهدده خطر المجاعة، ودفع بالرئيس اليمني للمسارعة بالتنسيق مع السعودية والأردن ومصر خشية تدويل البحر الأحمر، وتعريض الأمن القومي العربي للمخاطر.

المحزن في هذه القضية، أن هذه العمليات الإرهابية، يقوم بها شباب مسلم كما وصفهم قبطان اليخت الفرنسي المخطوف في إبريل الماضي بقوله «شباب صغار، إسلاميون، معتدلون، لا يريدون سوى المال» إذا كان «المعتدلون» يخطفون فما بالكم بالمتطرفين؟! هكذا تعود «القرصنة» التي تمثل «همجية» غابرة لم يعد لها مجال في عالمنا إلا في الأفلام السينمائية على يد هؤلاء الشباب المسلم، لتصبح تجاره رائجه! أليس هذا أمراً محزناً؟ لكن الأكثر إساءة، أن تقرير «شاتام هاوس» يرجح أن «الفديات» تستخدم لتمويل المسلحين الإسلاميين الذين يحاربون الحكومة الصومالية لاستعادة السلطة من عام «2007» وقد أكد شكوك المجتمع الدولي، أن تنظيم «الشباب» وهو تنظيم مدرج على لائحة المنظمات الإرهابية، أعلن -لأول مرة- دعمه مهاجمة السفينة الأوكرانية، إذ قال متحدث التنظيم: إن خطف السفينة التجارية جريمة، لكن هذا لا ينطبق على السفن التي تنقل أسلحة لأعداء الله، وطالب القراصنة بحرق السفينة وما فيها إذا لم يحصلوا على الفدية، والمدهش أن أحد المعلقين على (شبكة فلسطين للحوار) قال: «طبعاً المنطقة قريبة من السفينة المخطوفة، وهي تخضع لسيطرة الإسلاميين، نسأل الله أن يمّكن لهم ويفتح عليهم» وعلق آخر «يا رب، الأسلحة تروح للشباب المجاهد في الصومال» أي جهاد هذا؟ هل قصف المدنيين في العاصمة جهاد؟! هؤلاء بغبائهم يعززون اتهامات المجتمع الدولي كون أموال القرصنة تذهب لتمويل «الجهاد الإسلامي» في منطقة القرن الإفريقي، لتحويلها مركزاً لـ«القاعدة»، مما يفتح الباب واسعاً للتدخل العسكري الدولي، ومن الغريب أن هؤلاء لا يرون في عملياتهم، قرصنة غير مشروعة، بل يتهمون الآخرين بأنهم القراصنة لأنهم ينقلون الأسلحة في مياههم، ويرمون نفاياتهم، ويصطادون فيها.

هؤلاء القراصنة البائسون، يسرقون ويخطفون ويبتزون ويرعبون ويقتلون فيسيؤون، ولم يكفهم كل ذلك، بل يبررون عملهم الإجرامي بالدين، فهم بذلك يفترون.

* كاتب قطري