في روايته الغريبة والممتعة «أوبابا كواك» يمارس الكاتب الباسكي المشاغب «برناردو أتشاغا» هواية اقتطاف القصص من حقول الآخرين، مستخدماً ما يقطفه عضادات لحبكته، معتذرا في أثناء ذلك بأن تلك القصص المقتطفة هي نفسها منتحلة في الأصل أيضا، حيث يرى أن الحكايات تتكاثر بالانتحال، وأن وجود المنتحلين المبدعين هو سبب غزارة القصص على مر الأزمان... والأعجب من هذا أنه لا يتورع، في هذا السبيل، عن تخصيص فصل كامل يؤسس فيه أحد شخوص الرواية «منهجا في الانتحال»... فلا يعود الانتحال عند ذلك أمراً مشروعا فقط، بل ينتصب كعلم له قواعده وأصوله!
إن ما يقصده «أتشاغا» بالانتحال هو ليس المفهوم المستقر في أذهاننا كمعادل للسطو الفاقع والوقح، بل هو البناء على الأصل وتوجيهه وجهة أخرى مختلفة تماما، وهو في النهاية أمر لا ينجح فيه إلا مبدع حقيقي.ومن أمثلة ما يرد في هذا السياق قصة «الخادم والتاجر الثري»... وهي القصة التي كثر متبنوها حتى لم يعد أحد يعرف أباها الأصلي، فالإيرانيون يروونها على أنها حكمة فارسية، والهنود يتداولونها باعتبارها تراثا هنديا، وهي بالطبع قصة عربية أصلية بالنسبة لنا نحن العرب. وبرغم الانتحال الفج الذي لا يغير سوى أسماء الأماكن والأشخاص، فإن القصة بكل هوياتها القومية، تبقى ممتعة ومؤثرة لارتكازها على فكرة «استحالة فرار الإنسان من قدره».تقول القصة:«كان يا ما كان، في مدينة بغداد، خادم يعمل في خدمة تاجر غني، وفي أحد الأيام توجه الخادم منذ الصباح الباكر إلى السوق لشراء لوازم البيت، ولكن ذلك الصباح لم يكن مثل غيره من الصباحات الأخرى، لأنه رأى في ذلك الصباح الموت، ولأن الموت أومأ إليه، فقد رجع الخادم مذعوراً إلى بيت التاجر وقال له:- سيدي، أعطني أسرع حصان في البيت. أريد أن أبتعد عن بغداد هذه الليلة. أريد الذهاب إلى مدينة أصفهان البعيدة.- ولماذا تريد الهرب؟- لأني رأيت الموت في السوق وأومأ لي متوعداً.أشفق التاجر عليه وأعطاه الحصان، فانطلق الخادم آملاً في الوصول إلى أصفهان في الليل.وفي المساء خرج التاجر نفسه إلى السوق، ورأى الموت هو أيضا، فقال له وهو يدنو منه.- أيها الموت... لماذا أومأت إلى خادمي متوعداً؟فردّ عليه الموت:- أتقول إني أومأت متوعداً؟ لا، لم تكن إيماءة توعد، وإنما إيماءة استغراب ودهشة، فقد فوجئت برؤيته هنا، بعيدا عن أصفهان، لأنه يتوجب علي أن أقبض روح خادمك هذه الليلة في أصفهان»!هكذا تنتهي القصة بجميع أزيائها وألسنتها، غير أن بطل رواية أتشاغا المؤمن بضرورة أن يكون المنتحل مبدعاً، يبدو غير مؤمن على الإطلاق بقدريّة القصة، فهو يراها قدريّة لا ترحم، بتصويرها الحياة مثل رمية «نرد»، وكأنها تريد أن تقول إن مصير المرء محسوم منذ الولادة، وإن إرادته لا تفيد في شيء.وبناءً على هذا فإنّه لم يقتنع بأن نهاية القصة هي النهاية الوحيدة الممكنة.ماذا فعل ذلك البطل «أو أتشاغا... بالأحرى»؟لم يفعل سوى أن يثني القصة من طرفها ثنية صغيرة، فكان أن انتحلها بجدارة وجعلها قصة أخرى، إذ بدلاً من أن يكون القدر ماحقاً، أصبح من الممكن أن تتدخل إرادة الإنسان في تغييره، وشتان ما بين نهاية أبوابها مؤدية للاستسلام لقبضة الموت، ونهاية أبوابها مفتوحة على أشواق الحياة.في الثنية الصغيرة نرى أن الخادم يصل إلى أصفهان، وهناك يخبئه رجل في دكانه قائلاً له:- لا تيأس... إذا استطعت البقاء حياً حتى شروق الشمس فسوف تنجو، إذا كان الموت قد صمم على أخذك هذه الليلة ولم يتوصل إلى تحقيق هدفه، فإنه لن يستطيع ذلك مطلقاً. هذا هو القانون.شمّ الموت آلاف الروائح، وفي الحال اكتشف مخبأ الخادم، ففتح باب الدكان بالقوة... لكن الدهشة ملأت عينيه، لأنه رأى أكثر من عشرة خدم يشبهون ذلك الذي يبحث عنه!كانت أولى خيوط الشمس قد بدأت تلمع، ولم يبق أمام الموت وقت للاستقصاء، فقبض على واحد من أولئك الخدم وخرج إلى الشارع.وفي الصباح نعلم أنّ الموت لم يحمل معه عند خروجه سوى «مرآة»، وذلك لأن مخبأ الخادم كان دكانا للمرايا، وأن صورته كانت منطبعة عليها كلها.قبض الموت على المرآة... ونجا الخادم!ها هو ذا باسكيٌٌّ عفريت قد ولَّد لنا من رحم القصة الحبلى المتعسّرة قصة جديدة، وهو ما كان له أن يفعل ذلك لولا أنه منتحل حقيقي... منتحل عظيم الموهبة.* شاعر عراقي
مقالات
حديقة الإنسان: منهج في الانتحال!
28-11-2008