المساكين
الحديث عن المهمّشين لا يخص الفلسفة المعاصرة وحدها خصوصاً عند فوكو، ونحن ننقل كلامنا عنها منه بل يكثر القرآن الحديث عن المساكين والمحتاجين واليتامى وأبناء السبيل والفقراء، ويجعل لهم الحق في الطعام والمال والرحمة والقرابة، والعمل، ونزع عداوة الأغنياء لهم، وليس فقط في الصدقة والكفارة، في الفعل الحسن أو التفكير عن الفعل السيئ.وقد ورد لفظ «مسكين» في القرآن اثنتين وعشرين مرة، عشر مرات مفرداً واثنتا عشرة جمعاً، فالمسكين فرد أو جماعة، إنسان أو طبقة، ووردت كلها بستة معانٍ:
الأول الإعالة للمساكين حق في بيت المال، فمن واجب الدولة رعاية المساكين ورعاية المحتاجين، وإذا كان أحد مصادر بيت المال الغنائم فللمساكين حق فيه مثل حق الله والرسول واليتامى ولذي القربى «وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ»، ويكون ذلك الآن بعدة أشكال من الضمان الاجتماعي والتأمين الطبي والإعانة الاجتماعية للسكن والتعليم والدعم الغذائي، فالمسكين ابن الدولة وليس عالة على الصدقة. والثاني القرابة، فالمسكين مثل القريب، شأنه شأن ابن السبيل، له حق في بيت المال دون تبذير وإسراف «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا»، ودرجته في القرابة مثل اليتامى، وكلاهما بمنزلة الوالدين ووجوب الإحسان لهم، وحسن معاملة الكل مظهر من مظاهر العبادة لله «لا تَعْبُدُونَ إلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ»، والإنفاق على الوالدين مثل الإنفاق على الأقرباء والمساكين «قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ»، وبالرغم من حب الإنسان للمال فإن للمساكين واليتامى حقاً فيه مثل ذوي القربى «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ»، وهؤلاء هم أولو الفضل والسعة من الناس الذين يشعرون بالمساكين وأنهم بمنزلة الأقرباء منهم «وَلا يَأتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ»، فإذا زاد المال اتسعت المساحة الاجتماعية، وإذا تراكمت الثروة رأسيا عمت المساكين أفقيا بل تصل مرتبة المسكين حد القسمة في الميراث مثل القريب «وَإذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ»، وللوصيّ أن يتصرف في الثلث من أجل إدخال اليتامى والمساكين مع الأقرباء.والثالث الإطعام، فالمسكين لا يجوع، وحق الحياة جزء من حقوق الإنسان، والجوع سبة في تاريخ البشر، فمن الجرائم عدم إطعام المسكين مباشرة «وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ»، وعدم الحض على إطعام المسكين «وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ»، وعدم تذكير الناس ببعضهم بعضاً على ذلك «وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ»، وإطعام المسكين كفارة للذنوب مما يدل على أن جوع المسكين ذنب في رقبة المجتمع «فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ»، وهو كفارة لمن لم يستطع الصوم «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً»، وقد لا يتحدد العدد بعشرة أو ستين ويترك لفعل الإطعام الجماعي «أوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً»، وهو فدية لجرم «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»، وبالرغم من حب الإنسان للطعام فإن للمسكين واليتيم والأسير حقاً فيه «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأسِيراً»، فهو جزء من تربية الذات من الأثرة إلى الإيثار، ومن الأنانية إلى الغيرية. والرابع الصدقة، فالصدقة واجبة للمساكين على الأغنياء «إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ»، وجوبها على الفقراء والأسرى، والصدقة ليست تصدقاً بل هي حق الفقراء في أموال الأغنياء، وهي أقل المعاني ورودا في استعمالات اللفظ.والخامس العمل، فللمسكين حق العمل حتى لا يعيش على الصدقة بل يكسب قوته بيده «أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ»، وهو معنى المثل الشعبي الشهير «إن تعلم الصيد أفضل من سمكة صدقة»، وبالرغم من تفسير الصوفية لذلك تفسيرا باطنيا في قصة موسى والخضر فإن المعنى الشرعي الظاهري هو المقصود.والسادس تكتل الأغنياء ضد المساكين ورفضهم الدخول في مدينتهم، والمشاركة في أموالهم «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ»، فالتآمر لا يكون من الفقراء والمساكين ضد الأغنياء على ما هو معروف في الأدبيات الماركسية وثورة البروليتاريا، بل تآمر الأغنياء على الفقراء، وحق الفقراء في الدفاع عن النفس، ومطالبتهم بحقوقهم في بيت المال وفي أموال الأغنياء، وعلى الإنسان أن يقتحم العقبة ومقاومة النفس وتحرير العبد وإطعام الجائع واليتيم والمسكين «فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ». ومن نفس الاشتقاق «المسكنة» بمعنى الذل والإذلال وهو أحد المعاني السلبية للمسكين، والمسكون والمساكن والسكن أي الإيواء وهو حق المسكين، والسكينة وهو ما ينزل على قلب المسكين من اطمئنان لوقوف المجتمع إلى جانبه، وسكين أي العنف الذي قد ينتج من ترك المهمشين مثل المساكين والفقراء واليتامى وأبناء السبيل والمحرومين هُمّلاً في المجتمع وسط الأغنياء والمترفين.* كاتب ومفكر مصري