كان الخامس عشر من نوفمبر يوماً يستحق أن ينطبع في الذاكرة إلى الأبد، فهو يوم صُـنِع فيه التاريخ. شهد ذلك اليوم أول اجتماع لزعماء مجموعة الدول العشرين- البلدان العشرين الرائدة اقتصادياً على مستوى العالم- في مدينة واشنطن للبحث عن حل للأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ورغم أن هذا الاجتماع الأول لم يسفر عن شيء أكثر من إعلان النوايا، فإنه مازال يمثل نقطة تحول تاريخية.

Ad

ففي مواجهة أخطر أزمة مالية واقتصادية على مستوى العالم منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لم تعد الدول الصناعية الغربية (بما فيها روسيا)، التي كانت تهيمن سابقاً على اقتصاد العالم، قادرة على الإتيان باستجابة فعّالة. فضلاً عن ذلك فقد أصبحت آمال النجاح في التغلب على الأزمة الاقتصادية العالمية أو تخفيف الآثار المترتبة عليها معقودة على القوى الاقتصادية الناشئة، وفي مقدمتها الصين.

ونتيجة لهذا فإن مجموعة الدول الثماني التي تستبعد أهم الأسواق الناشئة فقدت أهميتها والمغزى منها إلى الأبد. لقد أدت العولمة إلى تغير دائم فيما يتصل بتوزيع القوى والفرص، الأمر الذي مهد الطريق أمام نظام عالمي جديد للقرن الحادي والعشرين.

وبمجرد انفراج الأزمة العالمية الحالية فلن يعود أي شيء إلى ما كان عليه من قبل أبداً. فقد أصبح الغرب- الولايات المتحدة وأوروبا- في انحدار نسبي، بينما أصبح بوسع القوى الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية أن تحتل مكانها بين الفائزين.

الحقيقة أن استجابة الولايات المتحدة لانحدار قوتها العالمية كانت مثيرة للإعجاب، مع انتخابها لأول رئيس أميركي من أصل إفريقي، وهو باراك أوباما. وفي خِـضَم واحدة من أخطر الأزمات في تاريخها، أثبتت أميركا لنفسها والعالم أنها قادرة على تجديد نفسها. ومن الواضح منذ الآن أن هذا القرار سوف يخلف ثلاث عواقب بعيدة المدى.

أولاً: إن انتخاب رئيس أسود من شأنه أن يضع حداً لذلك التراث المأساوي المتمثل في العبودية والرق والحرب الأهلية الأميركية. ومن الآن فصاعداً فإن القضايا مثل لون البشرة أو شكل العينين أو النوع (ذكر أو أنثى) لن تلعب دوراً حاسماً في ترشيح أي شخص لمنصب عالٍ، أو حتى أعلى المناصب. إن النظام السياسي في الولايات المتحدة الآن يعكس التغير الديموغرافي الذي طرأ على البلاد، حيث أصبحت معدلات النمو السكاني أسرع بين القطاعات السكانية من غير ذوي البشرة البيضاء.

ثانياً: إن انتخاب أوباما سوف يؤدي إلى إعادة توجيه السياسية الخارجية للولايات المتحدة في الأمد المتوسط. وعلى وجه خاص، فإن تركيز السياسة الخارجية الأميركية على العلاقات عبر الأطلسية/الأوروبية، والذي كان فيما مضى يشكل أمراً طبيعياً، سوف يتحول على نحو متزايد إلى شيء من الماضي.

ثالثاً: إن إعادة التنظيم الداخلي للمنظور الثقافي السياسي الأميركي سوف تتعزز بفعل التحول العالمي الجاري للثروة والقوة من الغرب إلى الشرق.

لقد أصبحت قوى شمال شرق الباسيفيكي- الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية- من أكبر دائني الولايات المتحدة بالفعل، ولسوف تتعاظم أهمية هذه القوى نتيجة للأزمة المالية. وبالنسبة للمستقبل المنظور، فإن أعظم فرص النمو تكمن في هذه المنطقة، ولسوف تتحول أميركا لأسباب اقتصادية وجغرافية سياسية نحو منطقة الباسيفيكي على نحو متزايد، الأمر الذي يعني انحدار منزلة علاقاتها عبر المحيط الأطلسي.

كل هذه أنباء سيئة بالنسبة لأوروبا، فبمجرد انفراج هذه الأزمة العالمية، سوف تتضاءل أهمية أوروبا ببساطة. ومما يدعو إلى الأسف أن أوروبا لا تفعل أي شيء لتأخير أو وقف انحدارها- بل إنها في الواقع تعجل بالعملية من خلال سلوكها.

مع انتخاب أوباما، تحولت أميركا نحو المستقبل في إطار عالم متعدد الأقطاب تحكمه العولمة؛ أما أوروبا فإنها تعيد اكتشاف التحرك الوطني في هذا الوقت من الأزمة، وهي بهذا تعتمد تمام الاعتماد على الماضي. لقد أخفق الدستور الأوروبي، وأصبحت معاهدة لشبونة للإصلاح في حالة عدم استقرار بعد أن رفضها الإيرلنديون، وتعطلت محاولات تعزيز حوكمة الاقتصاد الأوروبي بسبب الانقسام الفرنسي الألماني. والعجيب في الأمر أن ردود فعل البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في مواجهة هذا الورطة التي أوقعت أوروبا بنفسها فيها واضحة كل الوضوح: فبدلاً من محاولة إعادة تنشيط عملية تعزيز التكامل السياسي والاقتصادي، نجد أن كلاً منها تعمل من تلقاء ذاتها في محاولة لسد الفراغ الذي نشأ.

لا شك أن التنسيق بين البلدان الأعضاء مازال قائماً، وهو ناجح في كثير من الأحيان، ولكن في غياب المؤسسات الأوروبية القوية، فلن تستمر مثل هذه النجاحات الفردية.

هناك خطر حقيقي في أن تُـفَوِّت أوروبا ببساطة ذلك المنعطف التاريخي الاستراتيجي نحو عالم متعدد الأقطاب- ولسوف يكون الثمن باهظاً. كان من الواجب على أوروبا بعد قمة واشنطن أن تعمل على إقناع الأوروبيين في كل مكان- وحتى المتشككين في أوروبا في الجزر البريطانية- بأن عملية إعادة التنظيم الاستراتيجي جارية بالفعل الآن! وإذا ما عجز الأوروبيون عن الانتباه إلى حقيقة مفادها أن القرن التاسع عشر قد ولى وذهب، فإن القافلة العالمية سوف تمضي قدماً إلى داخل القرن الحادي والعشرين مخلفة إياهم وراءها.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق.

«بروجيكت سنديكيت/ معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»