هل انتكس المسار الديمقراطي بقرار المحكمة الدستورية العليا القاضي بإلغاء التعديلات الدستورية التي اتخذها البرلمان في 9 فبراير 2008، وصادق عليها الرئيس عبدالله غول في 27 منه من العام الجاري، أم أن مثل هذا الحراك القانوني والسياسي والجدل الفكري والثقافي، القضائي والعملي تأكيد على إرهاصات الديمقراطية الوليدة واختبار جديد لها؟!

Ad

المسألة لا تتعلق بالحجاب فحسب، وإن كان عنوانها الأساسي حالياً هو الحجاب، حيث ستكون معركة الحجاب بين العلمانيين والإسلاميين مقدمة لمعركة سياسية أشمل، خصوصاً أن هزيمة القوى العلمانية وتراجعها ومحاولات استنجادها بالجيش لم تفلح في السابق، لاسيما عشية الانتخابات. فهل ستفلح معركة الحجاب في إحداث انقلاب قضائي بعد تعثر فكرة الانقلاب العسكري، وهذه المرة سيكون حزب «العدالة والتنمية» هو المستهدف وليس قضية فرعية مثل الحجاب؟!

وكان البرلمان التركي قد قرر بأغلبية كبيرة (411 نائباً) ضمت نحو 80% من الأعضاء على السماح لطالبات الجامعات بارتداء الحجاب باعتبار التعليم حقا للمرأة، وهو حق أساسي وجزء من حقوق الإنسان، التي يمكن بموجبها أن ترتدي المرأة ما تشاء من الملابس والأزياء سواءً حجاباً أو سفوراً، بما لا يتعارض مع قواعد النظام العام، الأمر الذي فتح باب الصراع على مصراعيه، خصوصاً استعانة العلمانيين بالمحكمة الدستورية العليا التي اتخذت قراراً قالت فيه إنها تستند إلى أحكام الدستور الذي يقرر أن «تركيا دولة علمانية»... و«لا يمكن تغيير قيمها الجوهرية»، التي تعتبر العلمانية أحد أركانها الأساسية (المادتان الثانية والرابعة من الدستور التركي).

أما الجهات التي صوّتت على قرار التعديلات في البرلمان بما فيها الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» فتعتبر قرار المحكمة غير دستوري، لأنه يخالف أحكاما أساسية في الدستور الذي منح حق التعليم وأقرّ مبادئ المساواة، وأن المسألة لا تدخل ضمن اختصاصات المحكمة، وكان ينبغي رد القضية وعدم قبولها.

قد يكون سبب قبول إحالة القضية الى المحكمة لا علاقة له بالدستور وإنما لمواقف مسبقة، حيث قررت المحكمة النظر في القضية بعد اعتراض بعض الأحزاب العلمانية على قرار البرلمان بالتعديل الدستوري، باعتبار الحجاب مخالفاً لمبادئ الدولة العلمانية.

يعتبر الحجاب وفقاً لمنظمات حقوق الإنسان التي انتصرت لحرية وحقوق المرأة واختياراتها مسألة شخصية، بارتدائه أو بالسفور، الأمر الذي أثار تداعيات كثيرة، بل نجم عنه صراع حول آفاق التجربة التركية الجديدة بعد اندلاع الأزمة بين الاتجاهات العلمانية والدينية، وماذا ستفضي إليه لو تم تحريم حزب العدالة والتنمية، لاسيما وهو الآخر حزب ديني؟ وما السبيل لحماية الديمقراطية الوليدة والتعددية والتنوع والحق في تبنّي الأفكار والمعتقدات بشتى أنواعها وأشكالها شريطة عدم تعارضها مع الدستور؟

لقد فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية عام 2002 وحكم منذ ذلك الوقت، وفاز مرة أخرى في دورة جديدة عام 2007، لاسيما بعد النجاحات التي أحرزها من خلال التقدم الحاصل في ميدان التنمية وفي دوائر الإصلاح والديمقراطية وتوسيع دائرة الحريات، بما في ذلك التحسّن الذي طرأ على الموقف من القضية الكردية رغم التشدد الذي مازال قائماً، خصوصاً إزاء تنظيمات حزب «العمال الكردستاني» PKK ومن حقوق الأكراد.

وإذا كانت الانقلابات العسكرية قد طبعت المشهد السياسي التركي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وآخرها انقلاب كنعان ايفرين في 12 سبتمبر عام 1980، فإن «الانقلابات القضائية» هي التي هيمنت على المشهد التركي منذ التسعينيات، فهل سيكون إلغاء حق «ترخيص» الحجاب في الجامعات بقرار المحكمة الدستورية العليا، مقدمة لحظر حزب العدالة والتنمية؟ وكيف السبيل إلى تنفيذ ذلك، علماً بأن المحكمة ستنظر خلال الأشهر المقبلة موضوع حظر الحزب لأنه غير علماني، الأمر الذي سيكون له انعكاسات سياسية خطيرة؟!

وإذا ما قدّر واتخذت المحكمة قرارات بحظر الحزب، أي أنه قد وقع المحظور، فهل ستذهب تركيا إلى انتخابات مبكرة؟ وماذا لو فاز حزب رجب طيب أردوغان «العدالة والتنمية» مرة أخرى، حتى لو تم حظر الحزب، ولكن بصفة مرشحين مستقلين هذه المرة؟ وماذا سيكون موقف الجيش؟! ولعل مثل هذه التساؤلات مقلقة ليس على الصعيد التركي، وإنما على الصعيد الدولي، لاسيما علاقة الاتحاد الأوروبي بتركيا ومستقبل عضويتها، علماً بأن واشنطن كانت قد أعربت عن رضاها لخطوات تركيا الإصلاحية، الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الى المطالبة في خطابه مطلع يونيو الجاري أمام القمة الأميركية- الأوروبية بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

إن النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية لفت انتباه النخب الفكرية والثقافية والسياسية، المتديّنة أو غير المتديّنة، لاسيما النموذج «الديمقراطي» الذي قدمه والذي جاء متواكباً مع نمو اقتصادي أقرب الى فكرة الدولة الحديثة العصرية، ولعل في ذلك إحدى المفارقات المثيرة، حين تعجز القوى العلمانية التركية عن تقديم نموذج ديمقراطي، في حين ينجح حزب ديني في تقديم أداء وآليات في إطار التوجه الديمقراطي.

إن تركيا المسلمة تلعب اليوم لعبة الديمقراطية في إطار مشروع أقرب الى الحداثة مستوعبة تطرفات بعض الأصوليين من خلال النجاحات التي قدمتها، ولربما في ذلك هو الوجه الآخر أو الطبعة الجديدة من النموذج الاتاتوركي الحداثي، ولكن غير المفروض بالإكراه، بل بمسحة إسلامية منفتحة، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جدية لدراسته وتقويمه انطلاقاً من تحديد تأثير الرافد الإسلامي المتفاعل مع التطور الدولي وآفاقه على الصعيد المستقبلي، وهنا الرهان على السباق التاريخي بين العلمانيين والإسلاميين (الحداثيين) في حل لغز الاختيار ومعضلته «الديمقراطية»!.

* كاتب ومفكر عراقي