* كنت في القاهرة، حين وردني خبر وفاة سمو الأمير الوالد الشيخ سعد العبدالله السالم، عبر رسالة نصية من «كونا موبايل». وفي نفس اللحظة كان جرس الشقة يرن بإلحاح غير معهود، فهرعت صوبه، وفتحته، ففوجئت بعم محمد البواب النوبي الطيب يعزيني بحرارة والدموع تملأ مآقيه وهو يقول: الله يرحمه، كان رجلا طيبا يحب أهل النوبة، ويفضل وجودهم في قصره، على غيرهم من الشغيلة، عم محمد لا يعرف سمو الأمير الوالد، لكنه يسمع عنه من قريبه الذي يعمل بقصر الشعب، ولذا فإن حبه له يعلن وفق مقولة الشاعر بشار بن برد «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» فثم الآلاف من المواطنين والأشقاء العرب يحبونه وفق هذا المنطق. ومن هنا يمكنني القول إن المحبة هي مفتاح شخصيته: حبه للبلاد والعباد، وحب البلاد والعباد لشخص سموه المجبول على التواضع، وسعة الصدر، والشجاعة التي يتسلح بها دفاعاً عن كل ما يهدد أمن الوطن وسلامته ووجوده وحدوده.

Ad

* عرفت سموه حين كان مراهقا، بحكم صداقته الحميمة مع سيدي الوالد وعمومتي رحمهم الله جميعا، ومذاك لا أذكر أنه غير عادته في التواصل مع أصدقائه ومريديه: يعودهم إذا مرضوا، ويصلهم في الأفراح والأتراح، مهما كانت الظروف التي يمكن أن تعيق حضوره البهي، ولا أنسى أبدا مشهد الأطفال في ليالي رمضان، المحتشدين أمام الديوان لاستقباله قبل الكبار، بشغف وشوق طالعين من «جوه» القلب البريء الشفاف الذي لا يعرف التزلف والمجاملة والنفاق! فإذا أطل عليهم بقامته السامقة، وسمته المتواضع البشوش، هرعوا إليه مغردين بأنشودة الحب المشفوعة بالقبلات والأحضان وكل مظاهر الود الخالص الذي لا تشوبه شائبة، بحيث يبدو لي أن محبة الأطفال لسموه ليست موروثة من الأجداد والآباء فحسب، بل إنها صفة خلقية جِبلّية ربانية، كما لو أنهم يرضعونها مع حليب أمهاتهم! وحين يفطم من رضاعة الحليب، فإنه لم ولن يفطم من رضاعة حبه العفوي المتنامي بتقادم الأيام، يرجع لسان حالهم مقولة الشاعر ابن زيدون:

ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا من لو على البعد حياً كان يُحيينا

* يحدثني الصديق السفير إبراهيم عبدالله المنصور قنصل الكويت في مدينة جدة أثناء الاحتلال، بأنه لا يعرف متى كان ينام سموه، كونه كان يصل النهار بالليل عملا دؤوبا لمجابهة تحديات الاحتلال وتداعياته المأساوية.

فهو يتابع بنفسه كل صغيرة وكبيرة تتصل بشؤون وشجون الكويت المحتلة؛ وأهلها الصامدين فيها، وأولئك المشردين الذين اضطرتهم عربدة المحتلين ودمويتهم الفاجرة إلى النزوح. كان سموه، بمعنى من المعاني أمة مجسدة بشخصه! وفي هذا السياق أذكر أن سموه كان يتصل بقيادات الصامدين مرات عدة في اليوم الواحد، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وكان له فيها الرأي والنصيحة إلى حد أن يخبر أحد القادة بمطالبة العبد لله بتغيير أسلوبه الوارد في التقارير الصحافية التي كنت أرسلها، عبر الفاكس السري، إلى وكالة «كونا» في السعودية. ودلالة النصيحة تدل على اهتمامه بكل شؤون البلاد والعباد، كما نوهت آنفا.

وقد تذكرت هذه النصيحة لاحقا، بعد التحرير حين كان السيد الوالد على فراش الاحتضار، وهو يوصيني بالحرص على إرث العلاقة الحميمة القديمة التي تجمعه بسموه، عبر تواصلي، المستمر به أسبوعيا على أقل تقدير، لاسيما أن سموه كان يسأل عن مريديه إذا غابوا، ويتصل هاتفيا بنفسه، وأحسب أن هذا هو دأبه مع كل أصدقائه الكثر كافة... وإن كانوا مجرد مواطنين عاديين كالعبد لله وغيره! فقد كان قلبه مشرعا دوما لاحتضان محبيه، من دون «بروتوكول» ورسميات.

* وسموه قارئ جيد، ويتابع ما تنشره الصحافة من دون أن تفوته شاردة ولا واردة، ومن هنا كان الأخ «عبداللطيف البحر» سكرتير سموه يهتف لي قائلاً: تعال حالاً. الشيخ يريدك توا الحين! وذات مرة لم يكن بحوزتي سيارة، كما أن سيارات وزارة الإعلام مشغولة، فامتطيت «وانيتاً» أحمر يقوده مواطن بدوي قح اندهش حين قلت له: أسرع بنا إلى الديوان الأميري حيث مجلس الوزراء. وفوجئ الحرس بـ«الوانيت» يقف أمام المدخل الرئيسي الأمر الذي أثار ريبتهم بصدق روايتي بشأن قدومي لمقابلة الشيخ، ولولا وساطة العم «بومشاري» الشاعر الأديب أحمد العدواني، وتفضله بتعريفهم بهويتي، لما أتيح لهذا الصعلوك مقابلة سموه، الشاهد ما إن صافحته حتى بادرني ما أمر مقالتك اليوم «غرفة التجارة وغرفة الفقارة!»؟! أثمة غرفة للفقراء في الديرة من دون علمي؟! قلت لسموه: إن الفقراء هم المواطنون الذين لا يملكون «شروى» قطعة أرض وتكاليف بنائها، لأن قرض بنك التسليف شحيح، ويحتاج إلى زيادة تفي بالغرض، ومن دون الخوض في التفاصيل، غادرت مجلسه بعد أن أمر بأن يؤمن للمئتي مواطن قطعة أرض بثمن بخس، مع زيادة القرض لاسيما أن المئتي مواطن جلهم من نجوم وأعلام الفن والصحافة والثقافة والتعليم في مطلع عقد السبعينيات، والذكريات تترى وتنثال على الخاطر مدللة على تمرسه وتواضعه الجم وشهامته وشجاعته وكل مناقبه التي يخبرها الخاصة والعامة على السواء.

رحم الله الأمير الوالد وألهمنا وذويه ومريديه الصبر والسلوان، ولكن العين لتدمع، والقلب ليخشع وإنا على فراقك يا أبا فهد لمحزونون!